برنسيس إيكاروس

Friday, February 27, 2009

للطفولة بريق جذاب


منى الشافعي في طفولتها
********************


بقلم منى الشافعي
*************
عندما تنتابني بعض الهواجس والأفكار والرؤى المتداخلة، و تتراكم متطلبات الحياة الخاصة والعامة فوق كتفي، تتصارع في داخلي رغبات حياتية كثيرة وطموحات متناقضة.. تتعبني وتثقل رأسي وتزدحم في مخيلتي فتزيد من ثقله وتعبه.. فنحن نعيش في عالم صاخب متحرك يضج بالمتغيرات اليومية والتحولات السريعة لنبض الحياة.. أما الهدوء والسكينة.. العزلة والوحدة.. التأني والتروي .. فليست من أبجديات هذا العصر، وبالتالي نتمنى دائماً تحقيق رغباتنا اليومية بسرعة جنونية.. فعندما تهاجمي تلك الرغبات المحمومة، وقبل أن أختنق من تنوعها وفوضويتها، أجدني وقد سيطرت عليّ رغبة ملحة بتذكر طفولتي وبساطتها واستعادة بعض أدق تفاصيلها.. فأنا مسكونة بطفولتي رغم سني وكثرة تجاربي الحياتية، مازلت أحتفظ بداخلي ببقايا صورها الحلوة الجميلة.. وأعتقد أن تدليل أمي لا يزال يلفني بحنانها و دفئها.. أما لذة حليبها فلا يزال يرطب جفاف لساني.. فحبي لأمي تجاوز الحدود – يرحمها الله-
*****
دائماً أتذكر حي الشرق.. مرتع الطفولة والصبا ببحره الأزرق الشفاف وشواطئه الرملية المنبسطة.. وأحلامي الصغيرة التي نمت وكبرت بين "سكيكه وفرجانه" وتعرجات دروبه.. يسحبني الحنين إلى بيتنا الصغير البسيط وكأنني أعيد بذاكرتي بناء ما تهدم من ذلك الحي القديم وتراثه العريق الذي أزالت معاول الهدم الحديثه معظمه وقضت على معالمه العتيقة.. فذاكرة الطفولة تلتصق بذاكرة المكان بكل تفاصيله وجزئياته الصغيرة، فعندما يتعلق الإنسان بمكان ما ، من الصعوبة أن ينساه، أو ينفصل عن الذاكرة
أعشق طفولتي.. أعتز بذكرياتها على بساطتها.. فهي لا تزال تملأ قلبي بالحب والفرح.. الشوق والحنين لأيامها البعيدة الحلوة، ولن أسمح لها أن تغادرني أبداً فلا تزال تعيش معي بكل ألوانها وصورها وكأنها حدثت البارحة.. فحين أجلس في سكينة مع نفسي وأسترجع بعضاً منها، أشاهدها بوضوح نقية صافية وكأنني أشاهد فيلما سينمائياً صور حديثاً بالألوان.\.. يا له من حب وتعلق بأحلام الطفولة
* * * *
تقول الفيلسوفة "ديوتيما" صديقة سقراط (إننا نقتطع نوعاً واحداً من الحب نطلق عليه اسم الحب- الحب العاطفي الرومانسي بين رجل وامرأة- في حين أن كلمة الحب تطلق على جنس أو نوع أعم وأشمل من هذا الاستخدام الضيق.. فإن الحب يطلق على كل رغبة عند الإنسان"... لذا فتعلقي بطفولتي هي الرغبة التي ستظل مشتعلة في داخلي.. وهي الحب المميز الذي لا ينطِفئ أبداً في حياتي.. فللطفولة بريق جذاب يسحبني رويداً رويداً من تلك الأمكنة الصاخبة بنبض هذا القرن إلى ركني الذي أفضله في البيت.. كم أحب أن أفترش أرض هذا الركن ويدي تتكئ بنزق على إحدى الأرائك (القنفات).. أُغمض عينيَّ على حلاوة الماضي.. أتأمل.. أسترجع خزين الذاكرة.. ألتقط بشغف بعض الصور المرتجفة والمتناثرة في الذاكرة لطفولتي ولتلك الأيام البريئة البسيطة التي عشناها نحن جيل الخمسينات.. ها هي والدتي الحبيبة تفترش البساط الأحمر الوحيد الذي نمتلكه لنفرشه في الحوش في المساءات الجميلة، وأمامها ماكينة الخياطة، وقد ارتاحت بين يديها الماهرتين قطعة قماش قطنية زاهية بلونيها البرتقالي والأصفر وقد انتثرت زهور بيضاء صغيرة بتناغم جميل فوق اللونين.. أليست حالة غريبة أن تختزن ذاكرة الطفولة ألوان هذا القماش ونقوشه التي تزينه؟
برشاقة يديها.. بابتسامتها المعتادة وبلمحة الحنان التي تميزها، تدير أمي ماكينة الخياطة بهدوء ورقة.. .أشعر وأنا أنظر إلى حركتها أن قطعة القماش أخذت تتلوى ثم تتشكل وأخيراً تتغير معالمها.. و فجأة! تتوقف حركة الماكينة ويختفي صوتها الرتيب للحظات، ليقوم المقص الكبير بواجبه..,هكذا تتناوب الماكينة والمقص على قطعة القماش لبضع ساعات، حتى تنتهي الوالدة من تفصيل وحياكة ذلك الفستان الجديد الذي سأتفاخر به بين أقراني الصغيرات حين ألبسه – وأكشخ به- في مساء اليوم التالي !!.. أما القماش الجميل فقد اشترته أمي من البائع المتجول سالمين- راعي الخام- ذلك الإنسان البسيط الطيب الودود.. أين أنت الآن يا سالمين؟
أما أخوايْ الصغيران فكانا يلهوان ويلعبان مع أقرانهما الصبيان في الفريج أمام البيت.. قطتنا البيضاء الجميلة- القطوة عبُّول- كانت تلهو ببعض الخيوط الملونة التي سرقتها من علبة أدوات الخياطة بغفلة من الجميع،ها هي تتقافز هنا وهناك معلنة عن فرحتها وبهجتها هذا المساء
****
والدي الحنون – يرحمه الله –تسترجعه ذاكرة الطفولة وهو جالس في تلك اللحظة وبين يديه أحد كتبه الأدبية التي لا تفارقه أبداً فقد كان شغوفاً بقراءة الشعر والأدب.. أتذكره جيداً جالساً على كرسي من الخشب يزين ظهره- الكرسي- مربعات متداخلة من خشب البامبو الرقيق، وقد تآكلت وتقطعت بعض تشكيلاتها المتشابكة لتصبح بلا شكل محدد.. أما قوائمه –الكرسي- فيزين إحداها شرخ طويل لف حوله خيط سميك بعناية وقوة.. الحمدلله أن والدي لم يكن يعاني من السمنة وإلاَّ ...... !! أما الوالدة فلم تتشجع يوماً لتجلس على هذا الكرسي خوفاً من ... ؟
*****
أما تلك الطفلة المدللة.. فقد كنت ألهو مع دميتي المصنوعة من القماش المحشو بالقطن وقد ارتدت فستاناً جميلاً حاكته أمي من بقايا الأقمشة، تزينه بعض الإكسسوارات البراقة – الترتر- المتوفرة آنذاك... كنا نسمي هذا النوع من الدمى "الكردية"... أقول كنت ألهو بشغف مع دميتي الجميلة، والقناعة تغلف داخلي والفرحة تسكنني والمتعة تملأ روحي الصغيرة.. ذلك عندما كانت الحياة بهذه البساطة وتلك العفوية المحببة والشفافية الرائعة.. فكانت قبلة أبي الحنون على خدي وعناق أمي المحموم في تلك اللحظة البلورية الصافية العذبة، ودخول أخوَايْ الصغيران فجأة! من الباب، بصراخهما المعتاد، وضجيج ألعابهما، وصوت الباب المزعج وهو يُصفق من يد أحدهما بقوة طفولته... تلك اللحظة المتداخلة بالحب والحنان والصخب والضجيج واللعب والجد.. كانت عندي قمة السعادة التي نتطلع إليها نحن أطفال ذلك الماضي البسيط.. يا لها من متعة نشتاقها ونَحِنُّ إلى تفاصيلها وشفافيتها.. دمية.. قبلة.. عناق.. قطة.. بساط أحمر .. كرسي تزينه الضمادات.. وصراخ الصغار وصخبهم.. إذن، ليست المسألة لحظتها ما نملك، ولكن كيف وكم نستمتع بما نملك حتى وإن كان أقل القليل.. هذا الذي يخلق القناعة لتظللنا السعادة بأوسع أفيائها
* * * * *
مع أن الأزمنة قد تغيرت، والأمكنة قد تبدلت، والأشياء تنوعت، والصور تجددت، إلا أن طفولتي بدقائق أمورها لا تزال تسحبني بقوة لتذكرها.. ها أنا أشم رائحة قالب الكيك- قرص عقيلي- عند عودتي من المدرسة ظهراً في فصل الشتاء البارد- كانت أمي تخبزه على منقل الفحم ( الدّوة)- وبقربه ارتاح إبريق- قوري- الشاي ودلة الحليب المعطر إما بالزعفران أو الهيل أو الزنجبيل.. يا لها من قطعة كيك وكوب الحليب الذي أعشقه صافياً يتصاعد البخار منه ليرسم تشكيلات غريبة تتراقص في فضاء الغرفة الصغيرة.. ويا لها من صرخة حنونة من فم الوالدة تنهيني عن أكل تلك القطعة من الكيك وشرب كوب الحليب قبل تناولي وجبة الغذاء.. .لأنه حسب توقعات أمي ستسد نفسي عن وجبة الغداء.. بينما توقعاتي.. أن قطعة الكيك هذه ألذ وأطيب من "مطبق سمك" أو " مجبوس لحم".. أو " مرق بامية " لكنني كنت عنيدة ومتمردة ورأسي يابس.. وكأنني الآن بتذكري أشعر بلذة هذه الكيكة وأشاهد بوضوح تشكيلات بخار الحليب الساخن.. ولكنني لا أتذكر شيئاً عن وجبة الغداء
* * * *
يأتيني الآن صوت – بوطبيلة- في ليالي رمضان الكريم، ينادي بصوت عالٍ مبحوح ممزوج بشيء من الحنين ( يا نايمين.. السحور) .. وهو يضرب بقوة على طبلته كي ينبه أهل الفريج لدخول موعد السحور.. ساحباً بيده حماره الهزيل المسكين الذي أتعبه طول الليل. ليتناغم صوت أبو طبيلة مع رنين الجرس المعلق في رقبة حماره.
* * * *
أتذكر ليالي الشتاء الباردة .. حيث كانت الأمطار تبدأ برذاذ خفيف قبل أن تشتد.. وكان منظر الماء بتساقطه الرتيب يجذب الأطفال الصغار للهو واللعب تحت قطراته العذبة... كانت الفرحة ترتسم على تلك الوجوه الصغيرة البريئة فتبدأ الأفواه العطشى بترديد الأهازيج مثل .. ( طق يا مطرطق.. بيتنا يديد.. مرزامنا حديد).. يصاحب هذه الأهازيج الرقص والتقافز إما بالحوش أو في الشارع – السكة- حتى تبتل ثيابهم وترتجف أبدانهم وتدور رؤوسهم الصغيرة من الدوران حول أنفسهم.. وحين يشتد المطر أكثر وأكثر.. تخرج الأمهات فجأة! تبحثنَّ عن الصغار!! تختلط الأصوات.. كل أم بمناداتها، من تلوم، ومن تصرخ بحنان، ومن تضرب برفق، وهكذا تتلون طرق العقاب في البيت حيث الإحساس بالدفء والأمان والحب والحنان مهما كان العقاب شديداً... وغالباً ما يكون لوماً وضرباً خفيفاً يُضحك الصغار ولا يبكيهم..
* * * *
أمام باب المخبز... تأتيني رائحة الخبز الخمير- خبز التنور- الدّبل المزين بحبات السمسم.. بعد أن يعدالخباز للخمسة يناولني أقراص الخبز الساخنة.. أتحرك عائدة إلى البيت الذي لا يبعد حتى عشر خطوات عن المخبز.. أرفع الأقراص بيدي الصغيرتين المطبقتين بقوة على حافة الأقراص.. أقربها من أنفي، أتلذذ بشم رائحتها الطيبة التي تنفذ إلى معدتي قبل أنفاسي.. يا لها من رائحة تستعبدني، لأبدأ بالتهام الفقاعات المحمشة التي تعلو وجه القرص الأول- هذا ما سمحت به المسافة- والتي دائماً تغريني فأقضمها بأسناني بقوة وأتلذذ بأكلها وكأنني ألتهم صحناً من الآيس كريم في وقتنا الحاضر.. ها هي والدتي تنتظرني أمام باب البيت كالعادة تراقب حركاتي.. تتناول الخبز من يديَّ الصغيرتين وقبلة الشكر تسبقها إلى خدي.. تبحث عن القرص الذي نتفت كل فقاعاته اللذيذة ثم حشرته بذكاء طفولي بين إخوانه الأربعة حتى لا أحد يكتشف فعلتي وبالتالي يعاقبني.. ولكن أمي تجد ذلك القرص المندس بين أقرانه.. تلتقطه بخفة.. وقبل أن يدخلني الخوف وترتجف أوصالي..تفاجئني ابتسامتها الحانية.. ثم ضحكتها العالية التي تريحني وتخفف توتري .. تتركني وتذهب إلى المطبخ أتنفس الصعداء!!.
يا لتلك الذكريات الملتهبة بالحنين والموسومة بالشوق، المغلفة باللهفة، المزدانة بالحب والألفة، المتدثرة بكل أنواع البساطة والعفوية والشفافية وفطرة الماضي.. لنوجه اليوم هذا السؤال إلى أبنائنا – نحن أطفال الخمسينيات-:
هل لطفولتهم نفس هذا الوهج الوضاء وذاك البريق الأخاذ وتلك الجاذبية القوية التي تشكل ملامح طفولتنا؟
******

4 Comments:

At 28 February, 2009, Blogger Manal said...

مساء الخير
والسرور

:)

انا من طبعي تصفح صور الطفولة

او صور العائلة عموما

احساس غريب ينتابني
فرح
عشق للماضي
واتنسم عطر الاهل الذين فارقونا
لنبقى على ذكراهم

احب الماضي بما فيه
ببساطته
باهله
بكل شيء

مقاله ررائعة

وما اجمل الصور

دمتي بالف خير
واسعد الله ايامك دائماً
:)

 
At 01 March, 2009, Blogger برنسيس إيكاروس said...

الغالية ابنتي منولة
دائما أنت السباقة في المرور
أسعدني تعلقك بالماضي وحبك
لعناصره الحلوة البسيطة
وشكرا لاعجابك بصوري
الطفولية
وبالموضوع
لك الحب دوما
منى

 
At 01 March, 2009, Blogger TruTh said...

بصراحة ما تتصورين شكثر استمتعت و انا اقرا ذكريات طفولتج
:)

مشكووورة على كتابة هذي الذكريات اللي خلتني أعيش لحظات جميلة ممتعة

الله يرحم الوالد و الوالدة و يجمعج معاهم بالجنة ان شاء الله

انا عن نفسي احن واااااايد لأيام طفولتي احس ودي الزمن يرجع ورا

و على فكرة صورتج الثانية اوضح من الأولى
كنتي طفلة جميلة جدا
:)

و يعطيج الف عافية
و تحياتي لج
^_^

 
At 01 March, 2009, Blogger برنسيس إيكاروس said...

حبيبتي
Tru Th
شكرا لمتابعتك ومرورك الشفيف على المدونة
دائما الماضي يسكن دواخلنا وذكرياته ترطب قلوبنا
أسعدني استمتاعك
بقراءة الموضوع
وشكرا لرقة كلماتك عن الصور
مودتي
منى

 

Post a Comment

<< Home