برنسيس إيكاروس

Saturday, November 28, 2009

قراءة في كتاب أشياء غريبة تحدث

غلاف المجموعة


صورة المرأة في نصوص منى الشافعي


صعوبة إمساك الحد الفاصل بين الكتابة والحياة



بقلم : سمير أحمد الشريف من الأردن



هل نوافق ما ذهب إليه علم النفس، أن الأدب وسيلة لتحقيق رغبات أحبطها الواقع؟ وهل الإبداع مرآة تمكّننا من سبر نفسية المبدع؟هل علينا أن نغرف من تجاربنا حتى ننجح، انطلاقا من عبارة:أن الواقع الأكثر حقيقية هو ما يتجذر في دواخلنا؟


مع نصوص منى الشافعي، نقف إزاء شخصيات تعبّر بصدق عن اشتعالاتها ودفء بوحها، باختزال متقن لأوجاعنا.بضمير الأنا هذا العذب الذي يبرعم فينا حميمية، لها مذاق الوجد، ويقربنا من نبض السارد ويدفعنا للإحساس بالتلاحم بين الكاتب وبطله، ويضطر ظنوننا أن ترحل بعيدا، مخيلين البوح مرتداً عن تجارب محض شخصية.


في هذه النصوص، مست الكاتبة كل ما هو جوهري في أعماقنا، وجعلتنا نعايش خصوصية التجربة من خلال أحلام اليقظة التي انعجنت بها، الحب، الثيمة التي فردت أجنحتها على فضاءات النصوص، هذا الغامض الشرس، الذي يلفحنا بلا استئذان، يأتي عابثا ويغادرنا بلا وداع، يتركنا نهبا لآلام ودوامات واحتراقات كبري.في هذه النصوص، نطل على تلافيف الوعي، نصافح، ونستجلي مخزون الذاكرة ببوح مخاضات إنسانية، تهرب منها بطلات القصص، عذاب، لا يمكّنك من إمساك الحد الفاصل بين الكتابة والحياة. تتسلل إلينا مفردات منى الشافعي وعباراتها المكثفة القصيرة المعبّرة، من بين الوعي واللاوعي والذاكرة. تهرب بنا إلى بوحها، تاركة ضمير المتكلم يبسط لنا اعترافات بطلاتها بصدق وتوحد وعفوية وكشف مواجع، ينبش ذاكرتنا، ويشركنا لنتواصل مع فضاءاتها. بلغة سهلة محكمة، تغوص أعماق شخصياتها، تنفذ إلى جواهر مكنوناتهم، إلى تلك التفاصيل الصغيرة في حيواتهم وأشيائهم المهملة، فلا نجد مسافة بينها وبين أشخاصها، بتلاحم بين السرد والحوار وتوظيف متناغم لتقنيات القص، البعيد عن الذهنية والتجريد، تشخّص دقائق المشاعر وأغوار الحالة النفسية وعنف صراعاتها، كاشفة تداخل الحرمان بالاستلاب."أشياء غريبة تحدث" القصة التي أعطت المجموعة اسمها، وأبرزت الكاتبة مقاطع منها على غلاف المجموعة الخارجي، رحلة في أعماق امرأة تعيش وجد الحب حلما، واللهفة على امتلاك أدواته بحثاً ومعاناة، أوصلتها درجة الانفصام، جنباً إلى جنب مع الرجل الذي يمنحها الثقة بنفسها، ويقدر كينونتها، ويأخذ بيدها، وتهرب به ومعه إلى آفا ق حلمية متنائية، تنضح سعادة وزهواً وأملا، في مستقبل باسم، ومشروعات لا يحدها خيال. هذه الأنثى، تعيش الحلم كابوسا، يختلط عليها، برغم مرورها بتجارب وجدانية/ حلمية/ لا واعية كثيرة، أشركت معها بائع الآيس كريم،وموج البحر، وغروب الشمس، وألوان الشفق، والشارع، والكاميرا، وجميعها موحيات، تتكئ عليها الأنثى، تأكيدا لذاتها من أنها تعيش الحلم،حقيقة، غير بعيد التحقق، فتصحو على كابوس أشد فظاعة: إنها وحيدة... لا أثر لكل الصور الجميلة في واقعها. تصحو وتترك لنا المشهد مفتوحاً على نهايات لا تقولها الكلمات، بل يترجمها الجرح البشري الذي طُعن بالخذلان والصد والإهمال والزيف.. "أشياء غريبة تحدث"، تحكي قصة خذلان المرأة أمام الرجل، الذي مارس الخداع زمناً، وارتضي لنفسه أن ينسحب من المشهد وهو ينظر نزف الجرح، دون أن يقدّم حلاً، مكتفياً بمقولة، لا تعيد كرامة، ولا تبني ما انهدم داخل الأنثى، رغم مكابرتها التي تحول دون إعلان انهيارها الجسدي، يهيؤها لقراره غير المسؤول. "تذكري دائما أن هناك أشياء غريبة تحدث.."، انسحبوا جميعا من مسرح أحلامها وتركوها نهبا للهواجس والكوابيس، سواء ذلك الذي لبس قناع الشهامة وتبرع لوالدها بدمه وقدّم المساعدة لاصلاح عطل السيارة، أم الذي وقف بجانبها حتى أصبحت محامية يشار لها، هم نسخة واحدة، بلقطات مختلفة الزوايا ويصدرون عن منهج واحد:القسوة ، بتلقائية ليس فيها ما عهدناه في كتابات المرأة من إدانة صارخة، وندب مولول، وجلد للرجل، تطرح منى الشافعيحالاتها بهدوء معجون بالصبر ومصبوغ بالهمس المجروح. مكتفية بطرح الحالة، بكل وجدها ورتوشها وإنكساراتها، لتظل بطلاتها جميعا، يجّرحهن الفراق والإهمال والتجاوز والهجر."في عيوننا يختبئ الضباب"، قصة من أحبت بإخلاص لكن الحبيب غادرها جرياً وراء طموحه، فتزوج من ابنة رئيس مجلس إدارة الشركة التي يعمل فيها، وعند لحظة المكاشفة، رد ببرود: "أنت دائما حالمة، متى تصبحين واقعية حتى تعرفي الحياة ولو ليوم؟". أمام هذا الفقد، تهرب للماضي وينفتح الوعي والذاكرة على عالم نقي بريء، لم يلوث بعد، عالم الطفولة الذي رصدت من خلاله الأحلام التي كبرت والمدن التي امتدت، والناس الذين تغيّروا، وتنكروا لأبسط شروط وجودهم. ولم تزل هي برغم الوجع الذي ينهش روحها، والأحاسيس المختلطة التي تتضارب في وجدانها قلبها ينبض بحبه يا إلهي لماذا نحب من لا يحبوننا ومن يهربون منا.. ونتمسك بهم في اليقظة والحلم، برغم الإساءات التي سببوها لنا؟؟.


"آخر المساءات"، حكاية الخادمة، صغيرة السن، تصحو على لهاث سيدها، محتاجا لأنبوبة الأكسجين، تحاول تقديم العون والدواء..لكنها تتراجع، بسبب الماضي الذي انفتح على وعيها، وصرخ بها، وذكّرها بالظلم الذي نالها منه كرّ شريط الذكري، توقف أمام لقطات مكبّرة جثم على جسدها الصغير البريء ذات ليلة خرساء، لم يرحم توسلاتها ودموعها، ورائحة الخمر تفوح من فمه عاشت، كسيرة القلب، محتبسة الكلمات، متصدعة القلب، تستر بيدها انتفاخ بطنها، وبالأخرى تتوسله، ويداه تمتدان.. تضغطان بطنها المنتفخ.. تصرخ وأصابعه تنغرز في جسدها البض أكثر.. يزداد الضغط ويتجذر الألم ويتمزق اللحم ويندلق الدم،يغطي بياض السرير بلون أحمر.. مازال يقعي ككلب لاهث، يتدلى لسانه، تتحشرج أنفاسه بانتظار أنبوبة الأكسجين...جحظت عيناه ذاهلة، يتوسل صمتها، لكن قسوة اللحظات التي تجّرعت مرارتها وشلت يدها عن الامتداد للأنبوبة، ربطت قدميها عن الحركة، لتظل ثابتة، مشدوهة ومصدومة بما ترى وما رأت، يتخلل اللقطات المتناوبة، انتظارها المقهور لجسده الضخم، يفترس فتنتها مرة وأخرى... تنهمر دموعها، تفترش قهرها وتتوسد وحدتها وتغفو على وجه أمٍ مبلل بالدموع ودعوات أب عاجز، لا يملك لابنته دفعاً، وضحكات إخوة صغار ينتظرون مبلغا من المال يطفئ فقرهم كل شهر، دون أن يُدركوا كيف. تتنازعها هذه العذابات وتقف مشدوهة، مشدودة إلى ماضٍ لا تستطيع إسقاطه من الذاكرة، ولا إزالته عن مسامات الجسد، تحّدق إلى الضعف البشري، مجسداً في إهاب رجل كان يوماً، رمزاً للقهر والقسوة وغياب الضمير.هل تقدم له ما يمنحه الحياة؟ صراع يشتعل في دمها، تتنازعها نوازع الشفقة والحقد والانتقام، وتغرق في لجج من المشاعر المتضاربة. لم تستطع أن تتخذ خطوة، تحجرت نظراتها ولم تفق إلا على ارتعاش يديها، تسقطان الأنبوبة على رخام الأرضية قبل أن تنفجر.


"تمتلئ به من جديد" قصة المراهقة التي تزوجت وهي تزف عامها السابع عشر من رجل يزحف فوق الأربعين،أغرته طيبته وإغداقه للحنان والمصاريف بلا حساب، صحت على وقع المأساة، وحيدة، ووجدت نفسها بين جدران سجن أربع.. تكومت الأيام حولها ثقيلة، ودموع الوحدة تغسل مقلتيها، يحاصرها وجع التوحد مع الذكريات وخوف يجتاحها من القادم المجهول. تقلّب سني عمرها الباردة التي ذابت مع "هلال"، بعقمه ورجولته الناقصة وأمراضه المزمنة والتقاها "مبارك" صدفة في الطائرة، كان لطيفا، حرارة لذيذة سرت في عروقها الجافة، حرّكت عواطفها....عفويته، أنستها رغوة الحزن التي رانت على صدرها، وطارت بها بعيدا عن روائح أيامها المحترقة أحاسيس جديدة نبتت في بستان أيامها، تؤلمها وتسعدها، مما لم تذق طعمه، وظنت أنها ماتت ولكنها الآن تورق من جديد جاء اللقاء الثاني،أشعل حرارة الجسد البارد، تمرد الجسد وتفجّرت الرغبة وصرخ القلب بألف سؤال!!! أزهر الحب ونسيت "هلال" وتبدّل الحلم، وعاشت لحظات عشق مع الحبيب الذي تلمّس مكامن الأنوثة في الجسد المتمرد الثائر.. عاشت الخيانة بكل جوارحها في حياة الزوج الذي قلب موته حياتها ونظرتها، رأسا على عقب،وقررت أن تضع حدا لخيانتها، ولتقع من ثم في معاناة نفسية أوصلتها تخوم الموت. مات "هلال"، وتقدم "مبارك"، والضمير لا يستريح والتمزق يحرق لحظات الهناء...هل هي الصحوة وعودة الوعي الغائب!!أم تعذيب الذات المتناقضة التي لا تركن إلى قرار؟ يا ضعفنا: نموت إذا لم نجد من يحبنا، فإذا وجدناه نموت بعذابنا النفسي، كم أنت غريب يا أيها الإنسان! مسايرة لإيقاع العصر، ولجت، القصة القصيرة جدا ساحة الإبداع الأدبي، وفرضت نفسها، رغم ما قيل حولها،ويكفيها إيقاعها واختزالها وتكثيفها وشاعريتها، وعلينا ألا نهتم بالشكل على أهميته على حساب المضمون/ الذي تمكنت بعض الأقلام الناضجة من توظيفه باقتدار وأستاذية والشاهد هنا الأديب "زكريا ثامر". امتحنت منى الشافعي ذاتها وذائقتها وأدواتها، وأثبتت براعتها بتوظيف التكثيف لإيصال مضامينها وبأسطر معدودة، بتوازن مدروس متقن.أتوقف هنا مع قصة (وجع!) التي تلخص عذاب من صحا ضميره، بعد أن أدرك فداحة الظلم الذي أوقعه بمن لا يستحق!! وتلك الخادمة التي أخرجتها البطلة من بيتها ظنا أنها سرقت عقدها، في حين كان الزوج/ الحبيب هو الذي اقترف الفعل..


"جليد اللحظة": قصة التباهي الكاذب والجري وراء المظاهر، والتضحية بالغالي لارضاء الآخر..مفارقة مدهشة.. باعت أساورها لتشتري فستانا، يظهرها جميلة في عيون الآخرين، تكثيف وإيحاء وبساطة آسرة، لا تجتمع إلا لفنان...هذه القصة، أعادتني لفضاءات "موباسان" في قصته"العقد" و"أو. هنري" في قصته "الهدايا" وما بين العملين ونص منى الشافعي من تناص جميل، حمل مضمون قصتها لفضاء إنساني رحب، يتجاوز حدود الإقليم ويلامس أحاسيس تنتابنا، مهما تباعدت بنا المسافات ودارت بنا الأزمنة..قصص مجموعة منى الشافعي، ترصد حالة المد والجزر بين المرأة والرجل، وتسجل دقائق عواطف الأنثى غير المستقرة وأزمات القلق التي ترتسم في سماء حياتها، بكل ما يمثله ذلك من أوجاع وأحاسيس متضاربة، تنهش قلب المرأة وعقلها كل هذا أمام رجل متقلب المزاج، غير مستقر القرار والعاطفة، مراوغ، غير مخلص، لا يترك للآخر إلا ذكريات أليمة، ترسم حروفها على شغاف قلبه من يوقع بهن،ليبقين مسكونات بحزنهن الدفين وفجيعتهن الحارقة التي لن يجدن من يستمع لهن،فينكفئن على ذواتهن، يسكبن آلامهن دموعا وآهات وينثرنها قطعاً من ذواتهن على الورق.أما اللون الأحمر الذي يتكرر في اكثر من قصة وموقع، فله دلالاته وإيحاءاته التي تغوص تسبح في الذاكرة بعيدا، قد يمتد في أغوار الطفولة التي ما زالت تختزن خيوطاً من تجارب غير مرضية مرت على نساء تلك القصص.

m_alshafei@hotmail.com




5 Comments:

At 28 November, 2009, Blogger سامر محمد عرموش said...

بسم الله الرحمن الرحيم

كل عام وانتم بخير والامة الاسلامية جمعاء

تقبلوا مروري الاول واسمحوا لي بالتجول في المدونة الطيبة والجميلة
تحياتي

 
At 28 November, 2009, Blogger سامر محمد عرموش said...

This comment has been removed by the author.

 
At 29 November, 2009, Blogger اقصوصه said...

شكرا جزيلا على الطرح

عسى ايامكم كلها عيد :)

 
At 29 November, 2009, Blogger برنسيس إيكاروس said...

أهلا أخي سامر
أتمنى أن تعجبك
مودتي
منى

 
At 29 November, 2009, Blogger برنسيس إيكاروس said...

أقصوصة الحبوبة
شكرااااااااااااا
مودتي
منى

 

Post a Comment

<< Home