برنسيس إيكاروس

Sunday, April 04, 2010

أما بعد فقد أغرتني وحركتني

أمابعد، فقد أغرتني وحركتني للترحال في عوالمها!
غلاف رواية «أما بعد»
غلاف رواية «أما بعد»

كتبت منى الشافعي
***********

عملية الخلق الفني، تعتبر شديدة الصعوبة والتعقيد، يعيش معها الكاتب/ المبدع، في تفاعلات متنوعة وخيالات ممتدة إلى ان تتجانس وتنضج، ثم أخيراً تتقافز أحداثا وشخوصاً، أمكنة وأزمنة، منتقاة بعناية تزين بياض الورق، لينتج عنها عمل ناجح مثل «أما بعد
العنوان
تأملت عنوان رواية «أما بعد..»، الصادرة حديثا عن دار الفارابي بقلم وليد الرجيب فتذكرت المرة الأولى التي كتبت بها رسالة إلى خالتي الغائبة، فقال لي أبي الغالي «ابدئي رسالتك بعبارة (أما بعد..)، وهكذا شعرت باغراء شديد يأمرني، فيحركني لأفتح الصفحة الأولى، وأتخلص من حالة التخمين التي أثارها العنوان في ذهني، لأنتقل إلى حالة اللهاث للوصول إلى سبر أغوار هذا العنوان، وعلى الرغم من احساسي بالاشباع من حالة السفر والترحال التي أعشقها، فانني كنت مشتاقة ومتلهفة للسفر والغوص في صفحات هذا العمل، الذي أخذ يشدني صفحة بعد أخرى، وعنواناً بعد آخر، لتزداد متعتي، وتتكون دهشتي.
أخذت أحلق مع الرجيب تارة عبر فضاءات خياله الابداعي الواسع، وأخرى عبر حقائق تاريخية تحكي حياة اليهود العرب، وتحديداً يهود الكويت، من دون ملل.
فالرجيب، له قدرة على توصيل أفكاره، وما يريد من طروحات ورؤى من خلال أسلوب سلس، بسيط، وجمل قصيرة مكثفة، تشدك سهولة استحضاره لمفرداته الجميلة، المنتقاة بدقة وجودة، بحيث تشعرك بنضج تجربته الابداعية، وتميزه بأدواته الفنية المتطورة.
من الرواية: «استند بيديه وذقنه إلى العصا، وحدق بصورة سارة، وتعلق بعينيها وكأنه يراها للمرة الأولى، ومر بناظريه الضعيفين على شفتيها المنفرجتين بابتسامة عذبة، وعلى شعرها المموج، الذي يصل إلى كتفيها، كان في عينيه نظرة صرخة صامتة، وكأنه استعاد شعوراً دفيناً، توقد كجمرة بين الرماد».
يعقوب عزرا اليهودي
الرواية رومانسية، لكنها ذات بعد تاريخي، تعكس ذلك الزمن بصدق وأمانة، وبتشويق فني بامتياز، فهي صورة انسانية لعلاقة حب عميقة، رقيقة، ليست عادية، نشأت بين المراهق اليهودي يعقوب، وسارة الفتاة الصغيرة اليهودية، في حي اليهود في الكويت، وجاءت أحداث الرواية على لسان بطلها يعقوب عزرا، والذي لم يكن يوجه حديثه للقارئ، فقد فاجأنا الرجيب بتكنيك جميل مبتكر، بحيث كان بطل الرواية يحكي حكايته أمام كاميرا المخرج «مناحيم»، المبهور بأداء يعقوب التمثيلي ذلك الإنسان الكهل الضعيف الثمانيني الطلة، وحركاته العفوية، وتعبيراته الصادقة المريحة، بحيث انحصرت مهمة المخرج «مناحيم» فقط طوال أيام تصوير العمل، بكلمة «Cut».
اذن، يعقوب اليهودي، هو الشخصية الرئيسية/ المحورية التي تدور حولها الأحداث الاجتماعية والسياسية والتاريخية في الرواية، وكذلك الأحداث والمتغيرات والتطورات في حياته الشخصية منذ لحظة ولادته عام 1923 في وطنه الكويت، بكل تفاصيلها وخصوصيتها، ومن هنا يبدأ تشابك الخيوط الدرامية للرواية مع الشخوص الأخرى، والأحداث المتتالية، والأزمنة الممتدة، والأمكنة المختلفة.
أما شخصية يعقوب، التي أحبت بصدق واخلاص ووفاء، وعانت واغتربت، وفقدت الحبيبة سارة والوطن والأهل والصديق، وجاعت ومرضت، ولهت وضاعت، وتشردت وسجنت، فتتركب من كل هذه التفاصيل الدقيقة، والمتغيرات العامة والخاصة في داخله، لتشكل في النهاية شخصية إنسانية متفردة في صفاتها، بداية من الحب غير العادي، وانتهاءً باطلاعاته الفكرية والمعرفية التي أحبها، مروراً بالتجارب السياسية التي اختارها فسكنته طوال حياته، تلك التجربة الثرية، والشخصية المتميزة هي التي دفعت المخرج «مناحيم» لتصوير فيلم عن حياة اليهود العرب من خلال حياة هذا الإنسان الممتدة إلى أكثر من ثمانين عاماً.
من الرواية: «كان الحديث عن لحظة وداع سارة ليس كتذكرة، كان حاجة للافشاء والتحرر، كان رغبة دفينة لاحياء الذكرى، ولكن لا تدفن معه، كالرغبة والحاجة لاحياء ذكرى مقتل الحسين، كان استدعاء المشاعر غير طبيعي، خارج اطار المشاعر التي يعرفها الناس».
وهكذا، فان حالة الحب اللاعادية عند البطل يعقوب، هي التي ادت إلى حالة القبول والرضا عن حياته المعذبة ومعاناته المختلطة بين فقد الوطن والأهل، والصديق والحبيبة، ولكن الأهم على أمل في لقاء الحبيبة التي ظل حتى عامه الستة والثمانين من عمره، يبحث عنها ويتمنى ان يلتقيها، فاذن حالة الحب هي الحدث الكلي اللافت للنظر في نسيج النص الروائي.
المسكوت عنه
استند الرجيب بالأساس على معطيات تاريخية واقعية صحيحة لفترة محددة لليهود العرب، وتحديداً يهود الكويت، بحيث صاغها بتكوين فني جميل، وبناء دقيق، وتكنيك مختلف، والأهم طرح بجرأة أحداثا لتلك الفترة التاريخية شبه المنسية، أو المسكوت عنها، فكشف لنا من خلال الرواية أحداثا وعلاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية، كانت غائبة أو مغيبة، فالرواية اذن توثيق ومعرفة ومعلومات قد لا يعرفها أغلبنا كقراء عن يهود الكويت وقصة نزوحهم إلى إسرائيل، خلال منتصف القرن العشرين.
وهكذا استطاع الرجيب ان يحرك بطل روايته يعقوب عزرا، حاملاً أفكاره السياسية، ومعتقداته الدينية، وعاداته الاجتماعية، وتقاليده العربية، وسلوكياته الإنسانية طوال حياته التي قضاها في وطنه الأول الكويت، ثم العراق، وأخيراً استقراره في إسرائيل - بغير رغبته - مسلطاً بعض الضوء على حياة اليهود العرب في أوطانهم الأولى، وعلى أساليب طردهم وتشريدهم ونزوحهم إلى إسرائيل، وذلك بسرد تاريخي موضوعي مختصر مكثف ومريح، مبعثراً أوراق تلك المرحلة التاريخية المسكوت عنها من تاريخ اليهود في الكويت، لتتناثر منها حكاية حب غريبة لا أروع ولا أجمل بين يعقوب اليهودي وسارة الجميلة، فقد نقل لنا الروائي وليد الرجيب، واقعا تاريخياً محسوساً، لكنه تغلغل وغاص في ما وراء هذا الواقع من احاسيس ومشاعر وحقائق نفسية وإنسانية تجسدت بصدقها وروعتها في يعقوب.
الإنسانية
الإنسانية الحقة لا تعرف حدوداً أو اختلافاً في الجنس أو العرق أو العقيدة أو اللون، ورواية «أما بعد...» للروائي وليد الرجيب، تجسد هذه الإنسانية المركبة بامتياز.
فبعد أن تراكمت في ذهني بعض أحداث الرواية، كتراكم الفقد والعذاب حول يعقوب، تبينت عالماً إنسانياً مختلفاً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، لم أكن يوماً أعرفه أو حتى أتصور بعض تفاصيله التي عاشها يعقوب اليهودي الكويتي، وبالتالي مع هذه الأجواء التي عاشها يعقوب والمتغيرات الدنيوية ما كنت أسافر مع يعقوب على صفحات الرواية بدءا من الكويت وانتهاء بإسرائيل، مروراً بالعراق، مبهورة من حكاية حبه الطاهرة لسارة التي استمرت لأكثر من نصف قرن على توهجها، تارة أحدق في وجه الحبيبة سارة الجميلة، وأخرى في وجه ساشا الطفولي البريء، ولكنني في لحظة ما فاجأت يعقوب حين قلت له:
ولكن سارة ليست هي الحياة.
أجابني:
بل سارة هي كل الحياة.
يا الهي، ما أروع هذه الكلمات الرومانسية الصادقة، ذات النزعة الإنسانية النادرة، التي افتقدناها منذ زمن، وتجاوزنا معناها الجميل إلى ماديات الحياة التافهة.
رأي
استمتعت وأنا أقرأ هذا العمل المتميز للرجيب، الذي لم يتطرق له أحد غيره من الكتاب، فتارة أجدني أتعاطف مع حكاية حب يعقوب لسارة فتهطل دموعي في أكثر من موقع، وأخرى أغمض عيني حسرة على حدث ما، وأتألم لآخر، وأحيانا أحدق مرعوبة في حدث تاريخي به من القهر والظلم والألم الشيء الكثير، فأجدني أختبئ منه، أتحاشى، رذاذ وجعه، ودكتاتوريته، لانني أدرك ان الرجيب هو أيضاً يشارك شخوص روايته حيواتهم وأجواءهم بصدق واخلاص خيالاً وواقعاً، فأعماله تعطيك انطباعاً بأنها معاشة بحرارة قلبه، وصدق مشاعره، وسعة خياله، فهو كاتب متمكن من حرفتة الكتابية، وصنعة الابداع، ونضج التجربة الروائية، وهذا ما أحسست به وأنا ألهث مستعجلة لأقلب صفحات «أما بعد...» ذلك العمل الفني الناجح خيالا وحقيقة، حلماً وواقعاً، الشائق والجذاب الذي كنت كلما أقرأ صفحة فيه أطلب المزيد وأتمنى ألا ينتهي.
وهكذا، أضافت لي الرواية عدا المتعة، المعلومة الجديدة، والمعرفة الصادقة، ببعض الأحداث التاريخية التي كانت مغيبة عن تفكيري وتائهة، أما إنسانية ورومانسية الحكاية فجعلتاني أكثر من قارئة لصفحات الرواية، أو متفرجة على أحداثها.
وهذه دعوة للمتابعين والمهتمين بالأدب، بالتمتع بقراءة هذه العمل، لعلهم يجدون بين صفحاته ما يثير الحب عندهم في أمكنة الجدب، وأزمنة الجفاف.
النهاية
بقدر ما آلمتني النهاية، وأوجعني موت سارة، أعجبتني، فقد وفق الروائي وليد الرجيب، باختياره موت سارة في روايته الجديدة «أما بعد..» مع ان هذا الاختيار قهر دموعي، وزاد انفعالي حين مس مشاعري فقد سارة الجميلة.




0 Comments:

Post a Comment

<< Home