برنسيس إيكاروس

Thursday, June 03, 2010

رواية ليلة الجنون






ليلة الجنون



للرّوائية الكويتية منى الشافعي



نجاح إبراهيم - سوريا





دائماً يُبهرني الجنونُ المبدع ، ألهث لقراءة أيّ نصّ مخضّب برائحة جنون،يحملُ أسراراً عديدة ، ومفاتيح غامضة ، يملكُ من التمرّد ما يخوله لأن يكون سيلاً من ضوء ، يرفعني معه إلى آخر سماواته ، بدءاً من أول العتبات الرّانية إلى أعلى ، لأصير جنوناً آخر .



نصّ .. في كلّ حرف فيه ألمسُ غزالاً مذعوراً ، مستفزاً يتوجّس كلّ نأمة من حوله يعتبرها صائداً له ، فأراني أتشجّر حوله ، أو أجعله يظلني وقتاً ليس بالقصير ، ليخلقني كما الاشتهاءات العصيّة .



منى الشافعي ، دفعت بمحبة عالية بروايتها (ليلة الجنون ) إليّ في الكويت ، ولم أحتمل صبراً حتى أعود إلى بلدي، لأبدأ بقراءتها معللة النفس بجنون بطلتها ، إيحاءً من العنوان اللافت ، فأقرأ وأقرأ لأصلَ الصفحات الأخيرة ولكن ...!!



سارة بطلة الرّواية تقتلُ المذهبية والطائفية حبّها الأول ، إذ وقفت أم حبيبها خالد في وجهه ، ورفضت هي أن تتزوّج بالسرّ بناء على طلب خالد ، ظلت فترة متردّدة أمامه ، لتغادر إلى أمريكا لنيل الدكتوراه ، بينما يتزوّج حبيبها من قريبته، ويصبح لديه أولاد . وحين تعود تبحثُ عن حبّ جديد ، فتلاقيه في شخصية الدكتور فيصل ، الشاعر ، ويجري التلميح عن حبّه دون أن يبوح به مباشرة ، ويعيشان هذا الحبّ ، بيد أنّها تستمعُ إلى الصوت الآخر ، صوت القرين ، الذي يظهر لها عبر فتاة جميلة تلقنها قراراتها ، ثم تختفي حين ترغبُ سارة بالصّراخ ، وهكذا يكونُ الصّوت المرشد لها في كلّ خطوة تخطوها- كما زُعم - وعبر سنين طويلة تقارب الأربعين ، وحين كان لزاماً عليها أن تقرّر الاقتران بالدكتور فيصل الذي يملكُ كلّ مقومات الرّجل المرغوب فيه ، تتردّد ، تشعرُ أنها مختلفة ، وهذا الزواج سوف يقيّدها رغم أنها حلمت كثيراً بذرية ، ولكنها لا تريد سجناً مؤبداً ،وفي ليلة ما ، تقنعها (القرين) الفتاة الجميلة بأنّ الحرية ستنالها في الموت ، حيث عوالم أخرى مفتوحة .



منذ البداية يخرجُ الصوت الآخر ، يهدي سارة إلى الصّواب كما يدّعي ، ويقدّم النصح لها ، وهذا الإرشاد لا نلمسه إلاّ حين تقع سارة في الحبّ ، فتدفع بقرارها إليها لعدم الوقوع فيه، خاصة بعد أن فشلت في التجربة الأولى مع الدكتور خالد بسبب الاختلاف الطائفي إذ تقول : " لن ينبض قلبك لأحد .. لأنّ حباً أقوى سيصادفك ، سيحتويك حتماً توءم روحك ، لا تتعجلي ، ولا تتسرعي فهؤلاء مجرّد عابرين ."ص118



وتصغي سارة بخنوع لقرارها ، وحين تلتقي بالرّجل المناسب كالدكتور فيصل تطلبُ منها التردّد لأنّ في تردّدها تفرّد وتميّز :



" طبعاً الحبّ نعمة ، من ينكرُ هذه الجنة ؟ لكن التفّرّد والتميّز نعمة أكبر ، وأنتِ مختلفة ، وتردّدك أكبر من حبك لشاعرك الولهان ، وسأقفُ بقوّة مع تردّدك ، أرفض فكرة الزّواج لأنها لا تناسبك .."ص207



الزواج لا يلائم سارة على زعم القرين لها، لأنه سيقتل أحلامها وسيخسرها حالة الحلم الممتدّة التي تميزها ، فترغب أن تتجاوز القرين ، وهي محاولة بسيطة للتمرّد منها ، ولكن هذه الحالة لا تطول فسرعان ما ترضخ لها لأنها تستشف مستقبلها وتخطط له . ص207



ولكن أليس التخطيط للمستقبل من قبل الآخرين قيد من نوع آخر ، إضافة إلى كونه يفقد المستقبل غموضه وجماليته ؟! كما أننا نلمح في مشهد آخر البطلة تستجدي القرين لأن تتركها تبوح للدكتور فيصل بحبّها ولم تدعها مع أنها بشرتها بحبّ قادم سيحتويها ، هو أيضاً ضنّ عليها بها البوح إذ اكتفى بالتلميح وبمناداتها ب " غناتي " والغريب أنّ كليهما ناضج ، أحدهما تجاوز الأربعين، وهي في طريقها إلى هذه السن ومع ذلك تنصاع لما يأمرها الصوت الآخر / القرين .



ما سرّ هذا الصوت ؟!



عندما بلغت الثامنة عشرة، وفي عيد ميلادها ، أباحت لها أمّها بأن ضوءاً اخترق النافذة ليستقرّ فوق جسدها الصّغير أثناء ولادتها ، وهذا النور صار هادياً ومقرّراً عنها . ذات مرّة تسأل سارة القرين، والذي يأتي دائماً على هيئة فتاة جميلة : من أنت ؟ تقول : أنا إحدى حواسك ، فتقول : أعرف جيداً حواسي الخمس ، لا أعتقد أنك إحداها ،فترد : أنا حاسة أخرى لا تشعرين بوجودها ، موجودة فيك بالفطرة ."ص211



والملاحظ أنّ هذا القرين / الصوت الآخر ،لم يدفع سارة إلى الأمام وإلى تشجّر وضعها وإثماره ، ولم يكن هادياً برأي ، وإنما صنع منها شخصية ضعيفة غير قادرة على المواجهة والتحدي، ينقصها الإرادة والعزيمة ، وقد وسمها القرين بأنها مختلفة ولا يليق المجتمع بها ، وبإمكانها أن تكون حرّة منه في عوالم أخرى ، علماً أنّ الكاتبة منى الشافعي لم تضع أمام بطلتها أيّ عراقيل، أو حواجز تقفُ في طريقها ، كانت الطريق مفتوحة ،وهذا ما يؤخذ على الرواية إذ كان أولى أن تصطدم البطلة بعدّة عوائق، تناضل لإزاحتها لأنها المثقفة الدارسة في أمريكا ، عليها أن تتخطاها لتكون قدوة للأخريات ،ولعلّ أولها التخلص من أوامر القرين ،والقضاء عليه في ليلتها المجنونة ، والشروع بملاقاة الحياة والحبّ والنضال من أجل الخير والحقّ والجمال .



تقولُ البطلة :" أشعرُ بغربة قاسية ، وحيدة بين أفكاري ، أصطدم دائماً بمحدودية حريتي ، فليس كلّ ما أريده يتحقق ، ولكنني مجبرة على ذلك،



لأنني أعيش بينهم ومعهم وفي عالمهم الضيّق ...."ص274



لعلنا نتساءل لماذا تعيشُ هذه المثقفة غربة قاسية ؟ ولماذا لم تستطع الرّواية العربية من انتشال المثقف البرجوازي الصّغير من انعزاليته وضياعه ، وسحق تلك الهوّة بينه وبين الناس والمجتمع، وكذلك بين أمته وقضاياها ؟ وهذا ما يجعلنا نتساءل كيف ترضخ هذه المثقفة المتمرّدة صاحبة الأفكار التنويرية للقرين في أنبل حقّ من حقوقها ؟ لماذا تستسلم ، وهي المحمّلة بثقافتها وثقافة الغرب ، وتتميّز بتفرّدها كما قالت القرين لتختار لها الحرية الحقيقية وأين ؟!



" إن الحرية الحقيقية تجدينها حتماً في عالم آخر أبعد من الحياة ." ص 275لتتركها قلقة ، متأرجحة في الصفحات التي تقارب الثلاثمائة ، تصغي لقرارات الصوت الآخر ، في أنّ الحرية في الموت ، لمجرد خوفها من الفشل الثاني والطلاق وزيادة نسبته والشيخوخة والمجتمع ومسؤوليات الحياة .أذكر مرّة أنني قرأتُ عبارة لكاتب يقول مفاخراً بأخطائه ، وقد عزّز كثيراً من معنوياتي وأشعرني بحلاوة صوابي بعد الخطأ ، كتب : " أقول جهاراً أخطأت وأخطئ وسأخطئ كمن يعملون ." .



كنت أتمنى أيضاً على الكاتبة أن تضفي على بطلتها جنوناً مغايراً ، فحين سمعت بالغزو على الكويت وهي تدرس في أمريكا أن تعود لتقف موقفاً سياسياً ، وطنياً ، جديراً بها كمثقفة ، ومغايراً لهؤلاء الذين فرّوا عن الكويت ريثما يتحرّر ، لا أن تكتفي بالتألم والانضمام إلى اللجان الإعلامية،لتعمل كما جاء على لسان البطلة ليل نهار ، وأن تعطي للغزو مساحة أكبر من خلال أفعال بطلتها التي سردت بصفحات عديدة عن حبها الأول والثاني وفشلها .



ما هو لافت لنظر القارئ تلك اللازمة التي اعتمدتها الكاتبة بعد أن تظهر القرين/الفتاة الجميلة للبطلة سارة ، فتبغي من وراء ذلك إنهاء المشهد أو الحدث ، لقطة ذكية من الكاتبة للبدء بحدث آخر كأن تقول :" وإذ بوجه فتاة أبيض ، جميل باستدارة القمر ، متألق ، أما العينان الواسعتان ، فكانتا تشعان بريقاً غريب الألوان ،أذهلني وقبل أن أصرخ ، غاب الوجه عني .. " قد تكرّر هذا المقطع كثيراً وجماليته أنّ الكاتبة اتخذته لازمة لحضور القرين وغيابه لحظة الرّغبة بالصراخ ، والانتقال إلى موضوع آخر .



إنّ معظم شخصيات الرّواية مثقفة ، واعية ، بيد أنني لم ألمس من أحدها ذلك التمرّد المجنون الذي يؤجج الرّواية، أو يسري فيها عنصر الدهشة والمفارقة ، فسارة كما قلت شخصية مسيّرة من قبل الصوت الآخر رغم نضوجها وثقافتها ، وليلى غسلَ دماغها الدكتور سعد لتتحول من امرأة متحرّرة تحرّراً كاملاً ، إلى امرأة تنصاع لأوامر رجل أحبته لأنه أخرجها من حزنها إثر موت والدتها ، مبرّرة بأن الحبّ أعمى ."ص69



والدكتور خالد، المثقف،العاشق الأول لسارة ، انصاع لأمّه في التفريق بينه وبين من يُحب ، والدكتور فيصل ظلّ يرافقُ امرأة تحترقُ بحبّه ماسكاً لسانه عن قول كلمة أحبك ، رغم لقاءاتهما وتدليله لها ! كما أنّ هناك شخصيات لا لزوم لها في سياق الرّواية كشخصية لطفية ود. عادل ومريم التي تطلقت ، شخصيات هامشية يمكن الاستغناء عنها، وكذلك حمد الشهيد الذي وصلت رفاته إلى الكويت دون أن نعرف الكثير عن استشهاده !



ولا يغيب عن القارئ الذي عرف الكاتبة عن قرب، كيف حمّلت بطلتها سارة من صفاتها ، وأسبغت عليها مواهبها، كموهبة التصوير الضوئي ، وكيفية انتقاء الهدية الرّمزية ، وممارسة الكتابة الأدبية ودراستها و..الخ ،



وهذا ما اعتبره" باختين" من أنّ الكاتب إحدى الشخصيات في نظام الرّواية.



ما هو متعارف عليه في الرّواية أنّ وظيفة المكان إلقاء المزيد من الضوء على الشخصية بغية الكشف عن عوالمها الفكرية والنفسية وهذا ما أجادت به الكاتبة منى إذ كان مسرح الجامعة المكان الأكثر حضوراً في الرّواية مما يدلّ على درجة وثقافة الأبطال ، كما أنّ مجموع الأمكنة التي تشكل الفضاء الرّوائي كمدينة الكويت ، أمريكا ، الأسواق ، الشوارع ، رابطة الأدباء ، الجامعة ، كلها ربطت بينها وبين الشخصيات بإتقان ، ولم يكن هناك من أمكنة مجازية أو مفترضة تخلقها البطلة في مخيلتها ، رغم ابتعادها عن الواقع والاقتراب من عالم الروحانيات بمجيء القرين / الصوت الآخر، فكان المكان ينتقلُ مع البطلة أينما حلت ، والفضاء الرّوائي نابضاً بالحركة والحياة والدلالة ، مفتوحاً على مصراعيه /أمريكا ، ولا أدري لم أغلقته الكاتبة لتحدّ من حرية بطلتها ، لتجعله مغلقاً ولا كوّة سوى الرّغبة في الموت حصولاً على الحرية المطلقة .



ما برعت به الكاتبة تلك اللغة الرّشيقة ، الرّائعة ، التي استخدمتها في نصّها هذا ، والحوار المقنع ، والوصف الأنيق إذ ابتعدت عن الوصف الكلاسيكي الذي يُعنى بالتفاصيل الصّغيرة ، المملة ، ولجأت إلى التكثيف حيث أعطى ذلك وظائف جمالية فنية للبنية الرّوائية .وما يلفت النظر أيضاً ربط الفكرة أو الحدث بالقصائد التي اختارتها الكاتبة بذكاء من قصائد الشاعرة سعدية مفرح، لدرجة كدتُ أنسى التنويه الذي دونته الكاتبة في مطلع الرّواية لأخال أنّ الأشعار من تأليفها ، إنّه ربط محكم وذكي ، كذلك جعلها الأشياء تنطقُ ، فقد أنسنت الأريكة لتشاطرها حواراً حياً :" قالت أريكتي : لقد أتعبني ثقلُ جسدك ، طول الليل تهتزي فوق جلدي .."ص28



ليلة الجنون ، رواية منى الشافعي أنيقة كأناقة مبدعتها ، ولكن رغبتُ أن يسبغها الجنونُ المبدع منذ البداية ، لا أن يكون ذلك في الصفحات الأخيرة كمقارنات تجريها البطلة بين أن ترحل مع الفتاة /الصوت الآخر ، أو أن تبقى في الحياة . تترك الكاتبة النصّ مفتوحاً ، وهذا خير ما فعلت لتعطي للمتلقي فسحة من الوقت للتفكير والتأويل ، ولمواربة الأسئلة المطروحة ، ولكن من قال إنّ الأسئلة المستحيلة ستظلّ بلا إجابات إلى الأبد .







0 Comments:

Post a Comment

<< Home