برنسيس إيكاروس

Thursday, June 10, 2010

دراسة عن رواية ليلة الجنون







ليلة الجنون للأديبة الكويتية منى الشافعي





ليلة الجنون الرواية الأنثى



للروائي عزالدين الجلاوجي / الجزائر





اسمحوا لي أن أعترف من البداية أن رواية ليلة الجنون للأديبة الكويتية منى الشافعي مفعمة بالأنوثة، حيثما وليت وجهك في تضاريسها سمعت همس الأنثى ونجواها وتغريدها وتأوهها، مما يجعل منها رواية للأنثى بامتياز، وهذه الميزة هي ما نحاول الكشف عنها فيما يأتي من القول.



أ- العتبة أنثى:



اهتم النقد الحديث بهوامش النص المركزي، على اعتباره نصا موازيا، أو كما سماها جيرار جينات العتبات "وهي ملحقات نصية نطؤها قبل أي فضاء داخلي كالعتبة بالنسبة إلى الباب"، ويمكن تشبيه العمل الأدبي بالثمرة، لبها هو النص المركزي، وما يغلفها فيعطيها رائحة ولونا وشكلا ويمهد لولوجها هو عتباتها التي تشكل معها كينونتها وحقيقتها، لا يمكن أن يستغني أحدهما عن الآخر.



حين نتهجي عتبات رواية ليلة الجنون لمنى الشافعي نلاحظ لوحة تشكيلية تتربع على عرش الغلاف من إبداع الكاتبة ذاتها وهو أمر نادر الحدوث، مما شجعنا على قراءة ذلك لأن اللوحة ترتبط بالرواية بوشائج قربى أساسها وحدة المصدر والمنجب، اللوحة لامرأتين أو قل لامرأة واحدة ممتدة القامة مرة وقد توشحت سوادا داكنا شابته حمرة وخضرة، وراكعة مرة وقد تجللت بحمرة قانية فيها اخضرار باهت، في اللون الأحمر إيحاء بالتضحية والفداء لعلاقته الأساس بالدم، ولعل غلبته على المرأة في حالة ركوع، دلالة على حالة انهيار أمام ما تتلقاه من صدمات قوية وشديدة، أما اللون الأسود فيوحي بالحزن وقتامة الحياة، وينقذ اللون الأخضر الموقف على قلته للدلالة على الأمل والخصب والتعلق بالحياة.



ليلة الجنون هو عنوان الروية ، وهو كلمتان مسند إلى محذوف ومضاف إليه، مما يعني أن المسند محذوف مقدر، الكلمة الأولى تكتنز دلالة الغموض والخوف والرهبة وهو ما يتناسب تماما مع اللون الأسود الذي ساد اللوحة، وزادتها حركة الرفع فيها غطرسة للرهبة والغموض، الكلمة الثانية فيها دلالة السفه والطيش وقد اتفق ذلك تماما مع حركة الكسر فيها، وإذا كانت الرواية تقوم على مجموعة تيمات فإن أهمها على الإطلاق تيمة المرأة وعلاقتها بالرجل في المجتمعات العربية، وهذا ما أوحى به العنوان حيث وردت الكلمة الأولى مؤنثة والكلمة الثانية مذكرا مما يوحي للمتلقي بهذا الصراع بين الطرفين ابتداء من العتبة الأولى.



ومما تقدم أقصد اللوحة والعنوان وهما عتبتان خارجيتان يتأكد لدينا ما سيمثله ذلك من سلطة على النص سنكتشفها بعد حين.



ولا تكتفي الكاتبة بعتبة اللوحة والعنوان بل تضيف إليهما الإهداء عتبة ثالثة، ويأبى الإهداء إلا أن يأتي دهاقا بالأنوثة أيضا، وهو يصرح من البداية "إلى دفئي وحنيني" ولا حاجة أن نثبت أن نبع دفء الحنان إنما هو صدر الأنوثة، وقلبها النابض بالرحمة والحب، ولكم يحلو لي أن أشبه عاطفة المرأة بنور الشمس وعاطفة الرجل بضوء القمر، إذ لا شيء من ذلك للرجل في اعتقادي إلا ما يقبسه من قلب المرأة وصدرها.



كما تضيف الكاتبة أيضا عتبة رابعة تعطيها عنوان "إضاءة" وهي من شمس أنثوية لأن الكاتبة تضمنها شكرها لصديقتها الشاعرة سعدية مفرح لما أخذت من دواوينها من قصائد زينت بها روايتها، فتكون هذه العتبة أيضا أنثى فهي إضاءة والإضاءة أنثى، وهي من كاتبة لشاعرة، وهي مفعمة بالحب والإخلاص وهما ميزة الأنثى، وهو ما نجده أيضا في عتبة خامسة بعنوان وقفة، والوقفة أنثى، تظهر فيها الكاتبة ميزة أخرى من ميزات الأنثى هي ميزة الإخلاص حين تتوجه بالشكر والتقدير لمن أعانها من الأصدقاء في إنجاز الرواية ونشرها.



وحتى لو تأملنها بداية الرواية فهي مفعمة بالتأنيث حين بدأت البطلة بمدح أمها في أنها ملأت حقائبها الأربعة بمواد الزينة والعطور "الله يطول عمر الوالدة لم تنس علبة البخور وزجاجتي دهن العود والورد، و... فقد دستها بعناية بين أدوات زينتي" (ص11).



فالأمر ذاته إذن يتحقق من العتبات الداخلية بعد أن تحقق من العتبات الخارجية، إن الأفق ولاشك سيكون مترعا بالأنوثة دهاقا بها، على اعتبار أنه لاشيء محايد في الرواية، وأن المسافة بين النص الموازي والنص المركزي واهية.



ب- المركز المؤنث:



ومن العتبات نلج النص المركزي فلا نجده إلا عينا نضاحة من الأنوثة أيضا، وسنكتشف هذه التيمة داخل النص عبر كثير من المستويات، نكتفي بالإشارة إلى بعضها كمستوى الإبداع، ومستوى الشخصية البطلة شكلا وجوهرا، ومستوى علاقة الشخصية المؤنثة بغيرها من الشخصيات،.



1- مستوى الإبداع "الرواية القصيدة/البطلة المبدعة":



قارئ الرواية يراوده شك في أنه يقرأ رواية بالأساس، أو على الأقل أن عبقا من الشعر يلون النص الروائي، لقد سعت الكاتبة في كثير من المحطات إلى التأنق في لغتها، مثل قولها "كنت كالعصفورة التي انطلقت من القفص، فرحة تطير في فضاء الحرية، مبتسمة تزقرق للرياح، تتهادى مع الغيوم، تصفر مع العواصف..." (ص 187).



كما استعانت بمقاطع شعرية كثيرة أخذتها من دواوين الشاعرة سعدية مفرح، وردت إحدى عشرة مرة، نثرتها في تضاريس الرواية رغبة في تزيين نصها.



بل إن الصوت المفرد نراه طاغيا على الرواية، فنص الرواية ترويه بطلته "سارة" بضمير أنا، ولا تكاد ترى صوتا آخر غير سارة إلا ما جاء في ظلها تابعا لها، دائرا في فلكها، مما يكاد يلغي تعدد الأصوات الذي يمتاز به النص الروائي، إن سارة تكتب سيرتها كأنما تكتب قصيدة والقصيدة أنثى، ولا تكاد الكاتبة تتخلص من أنا الساردة إلا في المقطع الأخير رقم 56، والذي لا يستغرق إلا سطرين "هل انتهت رواية سارة أم بدأت؟ سؤال مستحيل... لكن من قال إن الأسئلة المستحيلة ، ستظل بلا إجابات إلى الأبد" (ص 282).



وتضفي الكاتبة على بطلة روايتها الكثير من صفات المبدع، فهي وإن كان تخصصها علم التجارة، فإن نفسها تتوق دوما للإبداع، حيث تفاجئ من يحيط بها بقدرتها على كتابة الشعر تعترف لها بذلك قرينتها "طبعا اعتقد، ألست شاعرة متميزة؟" (ص 200)، ويعترف لها بذلك عشاق الشعر وعلى رأسهم فيصل الخليفة الذي مثل في الرواية الشاعر الكبير "صفق الجمهور.. طلب إعادة القصيدة، هو قربي يصفق مع الجمهور، ينظر إلي بعينين تملأهما الفرحة" (ص 168)، بل وحتى طلبتها في الجامعة قدروا كفاءتها الإبداعية، فتداعوا يشنفون أسماعهم بقصائدها "ومن قصائدك الرائعة تعلمت الحب والشفافية" (ص188).



وهي أيضا مصورة تزين بيتها ومكتبها بكثير من الصور التي التقطتها هنا وهناك مرتبطة بواقع البطلة، وما يحيط بها، معبرة عن ذوق رفيع وإحساس بالفن والجمال والحياة: "هذه اللوحات الثلاث المعلقة على هذا الحائط من تصويري، أما في البيت فعندي العشرات منها" (ص 159)، ولا يملك الشاعر فيصل الخليفة إلا أن يعترف لها بقدرتها تلك قائلا: " لوحات رائعة، لا يصورها إلا فنان متمكن محترف" (ص 159)، أو حين يقول "أنت فنانة شاعرة، وفنانة مصورة، وأعتقد أنك فنانة في أمور أخرى كثيرة" (ص 157).



ولا تكتفي منى الشافعي بإسناد صفة الإبداع للبطلة سارة، بل إن صديقتها ليلى فنانة تشكيلية تزين لوحاتها دواوين سارة، وحتى ابنة خالتها مريم فنانة تشكيلية أيضا تبهر لوحاتها الجميع بمن فيهم طبيبها المعالج "مريم فنانة تشكيلية يا دكتور عادل، لوحاتها جميلة ورقيقة" (ص 259)، وتسبغ الكاتبة لمسة الفن على أمها منى التي تظهرها بصورة الطباخة الماهرة "أمي حبيبتي طبخك لذيذ" (ص 31)، وفنانة الديكور العجيبة التي تعشق اقتناء التحف النادرة والثمينة لتزين بها بيتها "... تبحث عن الأثاث القديم والتحف الثمينة" (ص 15).



إن منى الشافعي ترسم صورة للمرأة الفائقة كأنما تستلهم حي بن يقظان، على الأقل في جانبه الإنساني والفني والجمالي، ولعل هذا السعي نحو الكمال هو ما جعل الإحباط في العلاقة مع الرجل، كأنما هو بحث أيضا عن الرجل الفائق.



2- مستوى المظهر، الجوهر/ المرأة الموناليزا، المرأة الفائقة:



اهتمت الرواية بمظهر المرأة وبكل ما يرتبط بها ماديا وشكليا، وقد ظهر ذلك أساسا في الشخصية المحورية "سارة"، التي بقدر ما تعتني بمظهرها وهندامها، وتقصد أشهر الأسواق "نتمشى في أحد الأسواق الشهيرة الجديدة" (ص107).



فهي أيضا تقتني أشهر وأرقى السيارات، وتسكن أفخم المنازل "تمددت على أريكتي المريحة... صوت ماء تساقط من الشلال الصغير الذي يتوسط السرداب..." (ص167)، تملأها بأندر التحف وأغلاها تقتنيها هي وأمها من أصقاع الأرض "لقد امتلأ بيتنا بتلك التحف لم يعد هناك شبر" (ص15)، وهي لا تتوانى أبدا في ممارسة حقها في السياحة واكتشاف الدول والشعوب، ومعرفة ثقافتهم وعاداتهم "أخذت والدتي إلى معظم الولايات الأمريكية، وبعض مدن كندا الجميلة ومدينة ماكسيكوسيتي في المكسيك" (ص 90).



وإن اهتمت الكاتبة بجانب المظهر وهو غريزة في المرأة تكشف جمال عمقها، فإنها اهتمت أكثر بجوهر المرأة، فسارة في رواية ليلة الجنون ظهرت أيضا فائقة الذكاء، متميزة عن باقي الناس "ترفضين إلا أن تكوني مميزة عن البشر" (ص 275)، تتدرج في مراحل التعليم وتحقق تفوقا كبيرا "سارة مبروك عليك أعلى درجةA " (ص 23)، وتساهم في كل الفعاليات الإبداعية والثقافية فهي "مسؤولة اللجنة الثقافية في جمعية طلبة كلية التجارة" (ص28)، ويدفعها طموحها إلى الالتحاق بأرقى جامعات العالم بأمريكا "أدرس في جامعة سفك ينيفيرستي وأتخصص تمويل" (ص12)، وتتميز في تخصصها "إنك متميزة بالعلوم التجارية" (ص 217)، بل وفي ذكائها الاجتماعي العام حتى تفتك من المحيطين بها لقب كولومبو "طول عمرك ذكية ويطلقون عليك كولومبو الجامعة" (ص 14).



وبذلك فإن الصوت المؤنث في الرواية لم يظهر في جانبه العاطفي الرقيق فحسب، ولا في وظيفة الخصب والنماء، بل ظهر أيضا في مستويات عديدة عرفت ملتصقة بالرجل فكأنما الرواية تسعى إلى طرد آدم من جنة الدنيا لأن حواء قادرة على الاستمرار دونه.



3- مستوى العلاقات/شهرزاد في ليلة جنونها:



يتربع الصوت الأنثوي على الرواية "ليلة الجنون" تربعا طاغيا جدا مما يكاد يجعل الصوت الذكوري ثانويا، فالكاتبة تسند روايتها لأنثى هي شخصية سارة، هذه الشخصية المحورية تستمد قوتها وعنفوانها من شخصيات نسوية مماثلة، أول ذلك أمها منى التي ظهرت في الرواية سيدة راقية مثقفة وفية تقف إلى جانب ابنتها سارة مشجعة وداعمة وملبية لرغباتها في التسامي بفكرها وإنسانيتها "أمنيتي ياابنتي أن تدرسي في الجامعة التي تخرج منها والدك يرحمه الله" (ص 12).



ثم صديقتها ليلى التي شكلت معها ثنائيا جميلا يتغلب على هموم الحياة بالحب والإخلاص والصدق، وحتى القرين الذين اختارته الكاتبة كان أنثى وهو قرين خير يظهر في أوقات الضيق والشدة ناصحا وموجها،"ما أن رفعت وجهي عن الورقة حتى صافحني وجه فتاة جميل أبيض، باستدارة القمر وأجمل، متألق، أما العينان الواسعتان فكانتا تشعان بريقاً غريب الألوان، غاب الوجه وأنا بالكاد أرفع وجهي عن الورقة" (ص 43)، وذلك مخالف لما هو مألوف حيث العادة أن يسمى ذلك قرينا أو شيطانا أو جنيا أو حتى ضميرا وكلها أسماء مذكرة، والكاتبة تكرر المقطع السابق تسع مرات حتى كاد يتحول إلى لازمة في رواية ليلة الجنون.



والملاحظ أن الشخصيات النسوية جميعها تتصف بالوفاء، ولا يلاحظ نقض علاقات الحب إلا من الشخصيات الذكورية وهو ما صدر من طارق الذي حاول خداعها "وهل كنت تتوقع مني أن أسدد ديونك بعد الزواج؟ أهذه كانت خطة جهنمية" (ص 21)، ومن يوسف مثلا حين تسبب في أذيتها، وحتى من سعد مع ليلى، ومن باقر ضد مريم حين يفضل أنانيته ليخسر زوجة عاش معها سنوات من الحب، "وهما اللذان عاشا قصة حب دامت أكثر من سنة، ثم تزوجا" ص 240.



بل إن الكاتبة لتكشف عن وقوع الرجل تحت سيطرة المذهبية والتقاليد البالية التي تفرضها الأم، فهو لا يملك استقلالية في قراراته بل حتى في أهمها كالزواج مثلا، والعكس تماما بالنسبة للمرأة، ولنأخذ مثالا على ذلك سارة التي تعيش في وئام تام مع أمها، رغم يتمها في حين يعيش خالد الدكتور والأستاذ الجامعي المتخرج من أمريكا دائرا في فلك أمه فيضحي بحبه لسارة حين لا يستطيع الزواج منها علنا لا لشيء إلا لأنها تختلف عنه مذهبيا، وهو يخاف من أمه إن فعل ذلك "سارة حبيبتي... لم أنجح بإقناع والدتي... فأنت لا تزالين في نبضات قلبي تتجولين، وفي تجاويف روحي تسكنين، ولكن أمي ياسارة أمي؟" (ص85).



ولعل هذا الصراع بين المؤنث والمذكر، تجلى في العنوان أساسا "ليلة الجنون" كلمة أولى مؤنثة فيها غموض وسكينة وعمق وكلمة ثانية مذكرة فيها سفه وطيش ورعونة.



وأخيرا فإن وقفتي البسيطة هذه مع الرواية تلمست خيطا جزئيا في الرواية التي تكنز الكثير، وتحتاج إلى قراء غواصين يعطون للرواية حقها ويكتشفون عوالهما وخباياها وينشرون أسرارها.











الروائي الأستاذ عز الدين الجلاوجي /رئيس رابطة أهل القلم / الجزائر



0 Comments:

Post a Comment

<< Home