مقتطفات من طفولتي ،للطفولة بريق جذاب (3)
*****************************
قرص عقيلي
********
كتبت منى الشافعي
**********
مع أن الأزمنة قد تغيرت ، والأمكنة قد تبدلت ، والأشياء تنوعت ، والصور تجددت ، إلا أن طفولتي بدقائق أمورها ما تزال تسحبني بقوة لتذكرها .
ها أنا أشم رائحة قالب الكيك "قرص عقيلي " عند عودتي من المدرسة ظهراً في فصل الشتاء البارد ، كانت أمي تخبزه على منقل الفحم "الدّوة " وبقربه ارتاح إبريق الشاي " قوري الشاي "ودلة الحليب المعطر إما بالزعفران أو الهيل أو الزنجبيل.
يا لها من قطعة كيك ، وكوب الحليب الذي أعشقه صافياً يتصاعد البخار منه ، ليرسم تشكيلات غريبة ، تتراقص في فضاء الغرفة الصغيرة الدافئة بالحب والحنان .
ويا لها من صرخة حنونة ، من فم الوالدة تنهيني عن أكل تلك القطعة من الكيك ، وشرب كوب الحليب قبل تناولي وجبة الغذاء المهمة . لأنه حسب توقعات أمي ستسد نفسي عن وجبة الغداء، بينما توقعاتي الطفولية ، أن قطعة الكيك هذه ألذ وأطيب من "مطبق سمك" أو " مجبوس دجاج " أو " مرق بامية " أو الأحلى " طبق الدولمة البغدادية " الطبق الشهير للماما .
لكنني كنت عنيدة ومتمردة ، ويقولون رأسي يابس مثل الصخر .
وكأنني الآن بتذكري ، أشعر بلذة هذه الكيكة ، وأشاهد بوضوح تشكيلات بخار الحليب الساخن ، الذي بتذكره ، يأمرني أن أسرع لأرسم لوحة تشكيلية فنية ، من وحي ذلك البخار المتجذر بداكرتي ، ولكنني فعلاً لا أتذكر شيئاً عن وجبة الغداء تلك ، حتى وإن كانت طبق الدولمة البغدادية الشهير !
* * * *
حكايات طفولية أخرى خطرت ببالي
***********************
يأتيني الآن صوت - بوطبيلة - في ليالي رمضان الكريم ، ينادي بصوت عالٍ مبحوح ، ممزوج بشيء من الحنين ( يا نايمين.. السحور ) وهو يضرب بقوة على طبلته كي ينبه أهل الفريج لدخول موعد السحور . ساحباً بيده حماره الهزيل المسكين ، الذي أتعبه طول الليل ، ليتناغم صوت أبو طبيلة مع رنين الجرس المعلق في رقبة حماره .
* * * *
أتذكر ليالي الشتاء الباردة ، حيث كانت الأمطار تبدأ برذاذ خفيف / ديمة قبل أن تشتد ، وكان منظر الماء بتساقطه الرتيب ، يجذب الأطفال الصغار للهو واللعب ، تحت قطراته العذبة . كانت الفرحة ترتسم على تلك الوجوه الصغيرة البريئة ، فتبدأ الأفواه العطشى بترديد الأهازيج مثل ( طق يا مطر طق ، بيتنا يديد ، مرزامنا حديد) . يصاحب هذه الأهازيج الرقص والتقافز إما بالحوش أو في الشارع - السكة - حتى تبتل ثيابهم وترتجف أبدانهم ، وتدور رؤوسهم الصغيرة من الدوران حول أنفسهم . وحين يشتد المطر أكثر وأكثر . تخرج الأمهات فجأة ! تبحثنَّ عن الصغار ، تختلط الأصوات ، كل أم بمناداتها ، من تلوم عيالعا ، ومن تصرخ بحنان ، ومن تضرب برفق ، وهكذا تتلون طرق العقاب ، في البيت حيث الإحساس بالدفء والأمان ، والحب والحنان ، مهما كان العقاب شديداً . وغالباً ما يكون لوماً ، وضرباً خفيفاً يُضحك الصغار ولا يبكيهم ، إنه حنان الأمهات في زمن اللا خدم ولا مربيات ، ولا غيرها من متطلبات هذا العصر الحديث ، المتجدد.
0 Comments:
Post a Comment
<< Home