همسات على الدرب .. وفضولي !
******************
كتبت منى الشافعي
**********
في لحظة تأمل، كنت أراقب الغيوم الخريفية المتناثرة بتشكيلة فنية ، هنا وهناك في السماء الصافية الزرقاء ، أبتسم للاشجار، أنصت لعصف الريح في حديقة بيتنا ، في أمريكا .
جدبتني تلك الشجرة العالية بأوراقها الخضراء ، كانت تتمايل أغصانها بخفة ، مبتهجة ، مشرقة .
وبقربها شجرة صغيرة تجاورها ، أوراقها خربفية ملونة ، حمراء ، صفراء ، برتقالية ، تتمايل مع الريح ، فتتساقط تلك الأوراق الملونة واحدة تلو الأخرى ، حتى بدت لي بعد فترة ، نصف عارية ، بأغصان شبه يابسة ، اقتربت منهما ، وكأنني أسمع من بين حفيف الأوراق ، وعصف الريح بعضاً من همساتهما ، أجبرني فضولي على الإنصات ، اقتربت أكثر .
همست الشجرة نصف العارية لجارتها :
- لماذا أنا التي تتلون أوراقي ، ثم تتيبس ، لتتتساقط من هزة ريح خفيفة ، وأفقد جمالي واخضراري في هذه الفترة من السنة ، وها أنت جارتي تظلين خضراء مشرقة ؟
والغريب يا جارتي ، أننا نرتوي من قطرات المطر نفسها ، وجذورنا في التربة نفسها ، ولقربنا من بعضنا ، تمتد لتتشابك بمحبة ، وما تزالين تحملين أوراقك واخضرارها ، التماعها ، وطراوتها . أليس هذا غريب يدعو للتساؤل ؟
همست الشجرة الباسقة بجرس لطيف :
- هذه هي الحياة يا جارتي وصديقتي وأختي ، لكل كائن في الحياة وظيفته التي خلق من أجلها ، وقدره ، وهذا ما يحصل لنا ، فأنا خلقت دائمة الاخضرار ( ever gr een ) وهذا قدري ، ولربما وظيفتي في الحياة تتطلب ذلك ، كي أزيد باخضراري نسبة الأوكسجين في الجو لراحة الانسان وباقي الكائنات الحية ، ولأظل شامخة أصد الرياح وأنشر الظل في المكان ، لسعادة الآخرين أيضاً .
أما أنت يا عزيزتي فخلقت لتزيدي المكان جمالاً جاذباً ماتعاً في فصل الخريف ، فحين تتلون أوراقك تبدو جميلة للناظرين ، وهذه متعة البشر الذين نعيش معهم ولأجلهم .
وظيفتنا في الحياة ، أن نسعدهم ونبهجهم في كل حالاتنا ، وفي كل فترات حيواتنا ، وحتى لو تساقطت أوراقك، فعريك يبدو جميلاً في أعينهم ، هل نسيت بأن البشر كائن ملول ، يسعى للتغيير والتبديل والتجديد ، في كل شيء في حياته . واكثرهم يعشق فصل الخريف وألوانه ، فخلاله تتلون أوراق الأشجار بألوان مشرقة زاهية بالأصفر والبرتقالي والأحمر ، وهذا يثير البهجة عندهم ويمدهم بطاقة الفرح والحب والجمال ، ألم تلاحظي ألوان ملابسهم واشكالها ، وألوان سياراتهم وموديلاتها الجميلة والغريبة ، وغيرها من أمور حياتهم الكثير، ألم تلاحظي كم شخص وقف يتأملك أنت ليلتقط صورا ً لجمال ألوان أوراقك وتناثرها تحتك ، وحتى حين سكنك العري ، هناك من أخذ لك أكثر من لقطة ، ألا يشعرك كل هذا بالسعادة ؟!
فجأة ، هدأ عصف الريح ، وتوقف تساقط أوراق هذه الشجرة الدامعة ، لكنها ردت بابتسامة :
- شكراً لك صديقتي العزيزة على هذه الكلمات ، فعلاً سأرضى بقدري ، هذه هي الحياة ، كي تستمر هكذا كما قلت وسأحب وجعي ، وأتناسى حزني ، وأتعايش مع كآبتي بروح المحبة والرضا.
بجرس مبتسم همست الصديقة :
- سعيدة لأنك اقتنعت بقدرك ، وعرفت وظيفتك في الحياة ، ليت البشر يقتنعون بأقدارهم وأرزاقهم .
والأجمل يا عزيزتي ، حين يرحل الخريف عناّ ، ويأتي الشتاء ، فما أجملك حين يدثر عريك الثلج ، وتتحولين إلى ملاك أبيض ناصع اللون ، يغري بجماله وبياضه الثلجي الناظرين ، فحتماً سيتهافتون عليك ، ليلتقطوا لك أروع اللقطات .
أما أنا فلن أكون بمثل بياضك وجمالك ، لأن اللون الأخضر سيتخلل الثلوج التي تغطيني ، وهذا قدري وسأرضى به .
وقبل أن أغادر المكان ، سمعتهما يتهامسان مرة أخرى .
همست الشجرة الخضراء :
- عزيزتي نسيت أن أخبرك ، بأن الحياة ستستمر ، فحين يرحل الخريف ، وينتهي الشتاء ببرده وذوبان ثلوجه .. سيأتي الربيع الجميل ، تسبقه تباشيره ، وتغريد بلابله ، وطيوره ، ستعودين كما كنت ، وربما أحلى لأنك ستكبرين عاماً وستبدين أطول وأنضر وستكتسين بالاخضرار ، وتمتلىء أغصانك بأوراق رقيقة مشرقة ،ولا تغفلي روعة أزهارك الجميلة ورائحتها العطرة ، التي ستعبق في المكان، والتي يعشقها البشر .
هل نسيت أنني أفتقد الأزهار على أغصاني ، ومع هذا راضية ودائماً فرحة ومستبشرة ، لأنني أعرف جيداً أن الاختلاف في كل حالاته ، جميل ورائع ومطلوب ، حتى تتلون الحياة ؟
ليت البشر يتفكرون ؟!
0 Comments:
Post a Comment
<< Home