مقتطفات من طفولتي الكاملة .
( للطفولة بريق جذاب )
المقتطف الأول
*********
كتبت منى الشافعي
***********
عندما تنتابني بعض الهواجس والأفكار والرؤى المتداخلة ، و تتراكم متطلبات الحياة الخاصة والعامة فوق كتفي ، تتصارع في داخلي رغبات حياتية كثيرة وطموحات متناقضة ، تتعبني وتثقل رأسي ، وتزدحم في مخيلتي فتزيد من ثقله وتعبه . فنحن نعيش في عالم صاخب متحرك ، يضج بالمتغيرات اليومية والتحولات السريعة لنبض الحياة . أما الهدوء والسكينة ، العزلة والوحدة ، التأني والتروي ، فليست من أبجديات هذا العصر، وبالتالي نتمنى دائماً تحقيق رغباتنا اليومية بسرعة جنونية .
فعندما تهاجمي تلك الرغبات المحمومة ، وقبل أن أختنق من تنوعها وفوضويتها ، أجدني وقد سيطرت عليّ رغبة ملحة بتذكر طفولتي وبساطتها واستعادة بعض أدق تفاصيلها ، فأنا مسكونة بطفولتي رغم كهولتي وكثرة تجاربي الحياتية ، مازلت أحتفظ بداخلي ببقايا صورها الحلوة الجميلة .
وأعتقد أن تدليل أمي لا يزال يلفني بحنانها ودفئها ، أما لذة حليبها فلا يزال يرطب جفاف لساني ، فحبي لأمي تجاوز الحدود - يرحمها الله -
*****
دائماً أتذكر حي الشرق ، مرتع الطفولة والصبا ‘ ببحره الأزرق الشّفاف وشواطئه الرملية المنبسطة ، وأحلامي الصغيرة التي نمت وكبرت بين "سكيكه وفرجانه" وتعرجات دروبه . يسحبني الحنين إلى بيتنا الصغير البسيط ، وكأنني أعيد بذاكرتي بناء ما تهدم من ذلك الحي القديم ، وتراثه العريق الذي أزالت معاول الهدم الحديثه معظمه ، وقضت على معالمه العتيقة .
فذاكرة الطفولة تلتصق بذاكرة المكان بكل تفاصيله وجزئياته الصغيرة . فعندما يتعلق الإنسان بمكان ما ، من الصعوبة أن ينساه، أو ينفصل عن الذاكرة !
أعشق طفولتي . أعتز بذكرياتها على بساطتها ، فهي لا تزال تملأ قلبي بالحب والفرح ، الشوق والحنين لأيامها البعيدة الحلوة ، ورائحتها المعطّرة بالهيل والزعفران ، ولن أسمح لها أن تغادرني أبداً فلا تزال تعيش معي بكل ألوانها ، وصورها وكأنها حدثت البارحة .
فحين أجلس في سكينة مع نفسي ، وأسترجع بعضاً منها ، أشاهدها بوضوح نقية صافية ، وكأنني أشاهد فيلما سينمائياً ، صور حديثاً بالألوان .
يا لها من لذة لا تشبه غيرها ، ومن تعلّق محموم بأحلام الطفولة !
المقتطف الثاني
*********
تقول الفيلسوفة "ديوتيما" صديقة سقراط (إننا نقتطع نوعاً واحداً من الحب نطلق عليه اسم الحب - الحب العاطفي الرومانسي بين رجل وامرأة - في حين أن كلمة الحب تطلق على جنس أو نوع أعم وأشمل من هذا الاستخدام الضيق . فإن الحب يطلق على كل رغبة عند الإنسان".
لذا فتعلقي غير المألوف بطفولتي ، هي الرغبة التي ستظّل مشتعلة في داخلي . وهي الحب المختلف الذي لا ينطِفئ أبداً في حياتي !
فللطفولة بريق جذاب ، يسحبني رويداً رويداً من تلك الأمكنة الصاخبة بنبض هذا القرن ، إلى ركني الذي أفضله في البيت .
كم أحب أن أفترش أرض هذا الركن ، ويدي تتكئ بنزق على إحدى الصوفات / القنفات وأنا جالسة على الأرض ، أُغمض عينيَّ على حلاوة الماضي أتأمل .. أسترجع خزين الذاكرة ، ألتقط بشغف بعض الصور المرتجفة ، المتناثرة لطفولتي ، لتلك الأيام البريئة البسيطة ، التي عشناها نحن جيل الخمسينات والستينات .
ها هي أمي الحبيبة تفترش البساط الأحمر الوحيد الذي نمتلكه لنفرشه في الحوش في المساءات الجميلة ، وأمامها ماكينة الخياطة ، وقد ارتاحت بين يديها الماهرتين قطعة قماش قطنية زاهية بلونيها البرتقالي والأصفر، وقد انتثرت زهور بيضاء صغيرة ، بتناغم جميل فوق اللونين . أليست حالة غريبة أن تختزن ذاكرة الطفولة ، ألوان هذا القماش ونقوشه التي تزينه ؟!
برشاقة يديها ، بابتسامتها المعتادة وبلمحة الحنان التي تميزها ، تدير أمي ماكينة الخياطة بهدوء ورقة ، تشعرني وأنا أنظر إلى حركتها أن قطعة القماش أخذت تتلوى ثم تتشكل ، وأخيراً تتغير معالمها ، وفجأة ! تتوقف حركة الماكينة ويختفي صوتها الرتيب للحظات ، ليقوم المقص الكبير بواجبه .
هكذا تتناوب الماكينة والمقص ، على قطعة القماش لبضع ساعات ، حتى تنتهي الوالدة من تفصيل وحياكة ذلك الفستان الجديد ، الذي سأتفاخر به بين أقراني الصغيرات حين ألبسه - وأكشخ به - في مساء اليوم التالي !
أما القماش الجميل فقد اشترته أمي من البائع المتجول سالمين - راعي الخام - ذلك الإنسان البسيط الطيب الودود ، أين أنت الآن يا سالمين؟!
أما أخوايْ الصغيران ، فكانا يلهوان ويلعبان مع أقرانهما الصبيان في الفريج أمام البيت . قطتنا البيضاء الجميلة - القطوة عبُّول - كانت تلهو ببعض الخيوط الملونة ، التي سرقتها من علبة أدوات الخياطة بغفلة من الجميع ، ها هي تتقافز بشيطنة الصغار وبراءتهم هنا وهناك ، معلنة عن فرحتها وبهجتها في هذا المساءالجميل!
0 Comments:
Post a Comment
<< Home