برنسيس إيكاروس

Thursday, May 29, 2025

 

                                            
* أنا .. وسنة الهدامة


      ذات ليلة غاضبة باردة من ليالي الشتاء ، كان المطر يهطل على المدينة الصغيرة عاتياً جارفاً ، والريح مجنونة تصرخ في المكان ، كما الليلة هذه ، وكان الزمان لحظتها غير هذا الزمان . 

         كنت طفلة أهرب من الخوف الى أحضان أمي الدافئة ، أشعر بالدفء والأمان ، أنام ملء جفوني . 

في الصباح لا تزال الريح تزمجر والأمطار تهطل بشدة .    في بيتنا الصغير يضعف حائط الطين المسكين فيتهاوى نصفه أمام عينيّ الصغيرتين ، وأنا أحمل حقيبتي المدرسية ، ذلك الحائط الذي صمد طوال الليل معانداً تلك العاصفة الهدامة . أرتجف فترتعش يد أمي التي لا زالت تزرر معطفي وتلف الشال الصغير حول جدائلي الطويلة . أرتعب أكثر وأنا أحدق في عمق الحائط المتكوم في طرف حوشنا الصغير . تضمني أمي إلى صدرها ، تطبع قبلتها الدافئة على وجنتي ، تودعني ، مدرستي قريبة من البيت ، إنني اعشقها . أكره الغياب عنها حتى لو يوم واحد ،أتوجه بإصرار وأسير بحذر .  

       تزداد العاصفة غضباً ، أزداد ارتجافاً تحت معطفي القصير ، أشعر بالبرد يقرص أطرافي ، وقشعريرة ملعونة تداعب جسدي الطري ، أتوجع . أصعد ببصري نحو السماء ، أنقل رسالة متوسلة . تهدأ العاصفة ، أواصل السير . 

      فجأة ! في لحظة يتبدل كل شيء حولي ، يتشقق حائط آخر أمام عينيّ المذهولتين ،  بلحظة يتهاوى ، أصرخ ، أجري مبتعدة ، يفاجئني ذلك الدكان الصغير المتكوم في الطريق ، وبابه الخشبي مغروس في الطين مائل إلى الأمام ، جدار آخر يتمايل ، يتكوم ، تضيع صرختي ، أواصل الركض . 

المسجد الذي طالما كنت أحتمي بحوائطه من شمس القيظ اللاهبة ،  تكومت تلك الحوائط واختلطت ببعضها أمام عينيّ الدامعتين ، المرتعبتين ، لا يزال صراخي يختلط بدوامات الريح العاتية ، وبكائي يختلط بصوت الرعد فيضيع . 

لعبت الفوضى بجدائلي ، انزلق الشال عن رقبتي ، اختطفته الريح .. مزقته .

‏ازداد رعبي وتسارعت دقات قلبي حين فاجأتتني تلك الحفر التي تنزف الماء والأ خاديد الغريبة التي رسمتها يد السيول الجارفة. تابع تابعت الركض والصراخ والبكاء والعاصفة ما زالت تصرخ معي وتجول تقربني من  مدرستي تارة وتبعدني قوتها تارة أخرى فتقذفني بعيداً .

   ‏دبت بعض الحياة حولي ابكي وتموت على شفتي المزرقتين تساؤلاتي وأنا اقلب وجوه المارة المتراكضين من حولي .. ابحث عن وجه أمي.

   ‏فجأة فترت العاصفة هدأت الريح توقفت الأمطار في لحظة نسيت خوفي وفزعي وتمردت على ذعري اخذت أقفز فرحة الهو مع حبات المطر التي ما زالت تتساقط وأرقص مع الريح الحنونة أدور حول نفسي أصفق وأدق الأرض الرطبة المبلولة برجلي وكانني أبعد  عني شبح البرد والخوف.

   ‏ واصلت السير ولم تمنع  شهقتي العالية قدمي صغيرة من أن تنزلق لتعلق في حفرة مطمورة بالطين غارقه في السيل بعد محاولة أليمة نهضت خائفة أجري وقد فقدت فردة حذائي في قعر الحفرة الطينية اللزجة لتستمر شهقاتي ومناداتي حتى لمحت بعض العباءات السوداء ملتفة حول قامات كبيرة وأطفال يتراكضون و يتصايحون في حوش مدرستي الكبير هرعت الأمهات وتبعها الآباء ليحتضنّ الصغيرات المذعورات تلفت صوب الكبار اتفرس في الوجوه حتى تكسرت في جوفي كلمة ماما.. ماما..  ماما.

   ‏فجأة ظلمت السماء زمجرت الريح وعاودت الأمطار هطولها خارت قواي ما زلت أصرخ احتضنني وجه أمي الملتاعة من بعيد قفزت نحوها تكونت في حضنها لفتني بعباءتها المبللة الغارقة في الوحل والطين شعرت بالدفء يغزو جسدي المرتعش  امتزجت دموعنا واختلطت خفقات قلبينا.

 

****

ذكرى سنة الهدامة التي مرت على الكويت في شتاء عام 1954.     

0 Comments:

Post a Comment

<< Home