برنسيس إيكاروس

Wednesday, May 14, 2025

 


            «للكتابة لون آخر» من بداية الرحلة حتى نهايتها !

                                                       ***

هل تودون احبائي ان تزاملوني تلك الرحلة البسيطة التي بدأتها من داخل قلبي وانهيتها بين دفتي «للكتابة لون آخر».. هل يتسع وقتكم؟!

  إذن...!

قبل مدة ليست بالبعيدة، حملت مخطوطة جديدة وتوجهت بها الى المطبعة، وبصوت واثق وجرس لطيف رددت: «هذا كتابي الجديد، بلون جديد، ات
منى ان يرى النور قريبا من خلال اياديكم الفنية الماهرة، بشرط ان اتابع معكم خطوات ومراحل طباعته من الالف الى الياء، التي اجهل معظمها، ان لم يكن كلها! الحمد لله انني لقيت الترحيب من الاخ رائد العشي رئيس قسم التسويق، والاخ حسن علي رئيس قسم الكمبيوتر ومن الاخوة والاخوات في الاقسام الفنية الاخرى في المطبعة، وهكذا بدأت رحلة الحلم التي استغرقت اكثر من شهرين.


بدأت الرحلة مع مخطوطة الكتاب التي حملتها معي، او بالاحرى تلك القصاصات من ورق الصحف والمجلات القديمة والجديدة التي تحتوي على 202 مقالة صحفية مختلفة الموضوعات ومتعددة الاحجام، كنت قد انتقيتها بمساعدة الصديق الباحث عادل العبدالمغني من بين ما يقرب من 800 مقالة ومتابعة حصيلة اكثر من 12 عاما من الكتابة الصحافية.

تسلم مني الاخ( حسن علي) هذه القصاصات، وفي الحال وزعها على اكثر من خمس صفيفات/طباعات لتبدأ المرحلة الاولى في هذه الرحلة المشوقة، بدأت انتقل بين الاخوات ألتقط بعض الخطوات الفنية واتتبعها، ها أنا اشاهد كيف ان بعض الحروف تخرج مبتسمة متألقة لتشكل على شاشة الكمبيوتر كلمة رقيقة، انيقة واضحة تلتصق بسرعة في مكانها قرب اخواتها اللواتي سبقوها الى الشاشة، تندس بخيلاء بينهن معلنة نهاية جملة خفيفة لطيفة، ثم بعد ذلك تتشكل فقرة حلوة مرتبة لتنتهي بموضوع خفيف الدم ظريف يفتح نفس القارئ.

وخلال هذه الجولة الممتعة، لفتت نظري بعض الحروف التعيسة التي كانت تخرج متباطئة، مرتجفة، لتشكل كلمة اما ثقيلة على نظر الآخر وسمعه وإما متألمة، او حزينة، او حائرة، او متحدية او ساخرة، او ذات دلالة معينة تبحث عن شيء ما! بحيث تابعتها وهي تجر احيانا حسرتها او لوعتها او اذيال خيبتها.. حقا، مسكينة تلك الكلمات هكذا هي الحياة دائما تتزاوج بين الحلو والمر وبين القبح والجمال، حتى الحروف والكلمات تتصارع كالصراع بين الخير والشر، وبين الانسان والشيطان.

بعد انتهاءالمرحلة الانيقة النظيفة، تسلمت من المسؤول مخطوطة واضحة المعالم جميلة الشكل، الغت ما قبلها من قصاصاتي القديمة والجديدة، مبوبة حسب ما اخترت لها من الوان سبعة كالطيف والحلم الملون، حملتها بين يدي والفرحة تملأني، ضممتها الى صدري، اليست هي وليدي الجديد؟! ما اجمله، لكنه حقيقة، لا يشبه اخوته الذين سبقوه، يبدو سمينا ضخما بالكاد حملته يدي الصغيرتين.
تدرون تذكرت ربما سيشبهني؟

 

  مراجعة صعبة !

ها هي اذن مرحلة الجد والتعب قد بدأت، مرحلة المراجعة الدقيقة، ما اصعبها على الكاتب! وما اصعبها علي وانا سأراجع 552 صفحة من الحجم الكبير، يا حيل الله، اخذ قلمي الاحمر يتصيد الاخطاء المطبعية بسرعة ودقة ويرسم حولها دوائر حمراء واضحة براقة، لقد اتعبتني هذه المرحلة واخذت الكثير من جهدي ووقتي حتى تأوهت اصابعي وأن ظهري، اما عيناي فلن تشتكيا لغيري!

بعد ان انهيت مرحلة المراجعة الاولى التي - هدت حيلي - من دقتها وثقلها، تنفست بعمق لأعود لحمل المخطوطة التي ازدانت بدوائرها الحمراء، متوجهة بها الى المطبعة، حين تسلمها مني المسؤول عن هذه الخطوة، كانت ابتسامتي تعلو وجهي تشي له بأنني قد قمت بعمل دقيق جبار، والله يستر من الآتي!

هكذا تلت هذه المرحلة ثلاث مراحل اخرى للمراجعة المتأنية والاكثر دقة، كنت خلالها قد تنازلت عن عنادي وكبرياء الانثى وطلبت المساعدة والمشاركة في هذه المرحلة من الصديق - اللي ما قصر منذ البداية - عادل العبدالمغني، لأن حسب معلوماتي، ان العين نفسها في المراجعة لن تنجح باصطياد الاخطاء المطبعية، وبالتالي فان عينين افضل من واحدة، وهكذا، كلما تناقصت الدوائر الحمراء في المخطوطة ازدادت رقعة ابتسامتي!

بعد ان انهينا آخر مراجعة بكل دقة، وقَّعت بيد مرتجفة على ورقة رسمية تؤكد الموافقة على تحويل هذه المخطوطة الى كتاب جميل، صراحة لحظتها تملكني نوع من الخوف والترقب وداخلي يردد بتوجس: «كيف سيبدو هذا الوليد السمين بعد ايام..؟!

 

الولد الحبيب !

 

شدتني تلك المرحلة الفنية الاخيرة وهي مرحلة اعداد وليدي الحبيب الى الاستنساخ والتجميع والفرز والطوي من خلال تلك الآلات الكبيرة الضخمة ذات اللونين الازرق والرمادي التي ازدانت بها مساحات واسعة من المطبعة.. ففي ذلك اليوم دخلت فجأة الى صالة تضج بالحركة، لأجده وقد تكوم على شكل اوراق مطبوعة مرتبة حسب التسلسل الرقمي تعرف بـ «الـمَلازم» والتي كانت تشغل مساحة كبيرة من تلك الصالة.. بقربها اصطفت آلات صماء متعددة الأغراض تدار بأياد فنية رائعة..

أسرعت نحو هذه الاكوام الورقية، مدهوشة تناولت إحدى الملازم، قلبتها بين يدي.. بعد ان تأملتها بنشوة، أعدتها بين اخواتها وأنا أردد «ما شاء الله.. بهذه السرعة أصبحت أماً لأكثر من الف نسخة من ذلك الابن الجديد..». قبل ان تنزل دمعتي الفرِحة، تلقفت أيادي الفنيين بمهارة وخفة تلك الاكوام من الملازم.. وضعتها باتقان على آلة الخياطة الحديثة، آلة رشيقة ذات ابواب زجاجية مزودة بابر دقيقة لكنها قوية وخيوط متينة، تدار بواسطة عقل الكتروني يكتشف اي خطأ أو خلل فني بدقة عالية بحيث يظهر مباشرة على شاشة جهاز الكمبيوتر التي يراقبها احد الفنيين المحترفين.. وللخياطة قصة أخرى!

أسمن عيالي !
حجم كتابي كبير وصفحاته تعدت الـ 550 صفحة، لذا نصحني الصديق الكاتب سليمان الخليفي من واقع تجربته مع «عزيزة» روايته الضخمة الأخيرة التي تحتوي على 540 صفحة، اقول نصحني بهذا النوع من التقنية ـ الخياطة ـ وهي طريقة أثبتت جودتها وانها الأفضل من تقنية الصمغ والتدبيس حتى لا يتفكك الكتاب مع الزمن/ المدة.. هكذا تابعت هذه العملية الدقيقة بشغف وحب استطلاع.. اخذت اراقب تلك الابر القوية وهي تنغرز بين طيات الملازم وتلك الخيوط البيضاء التي تلتف بفخر حول خصرها فتشكله.. وقد ازددت اطمئناناً على ديمومة «أسمن عيالي»!

توالت المراحل الفنية الأخرى الاقل تعقيداً من كبس وضغط وقطع وتهذيب وترتيب وتحضير.. وهكذا تنقلت تلك الملازم من طاولة خشبية مخرمة لغرض ما.. الى آلة حادة لغرض آخر مروراً بآلة حنونة رقيقة قامت بتشكيله لآخر المراحل.. واهتمت بمنظره الخارجي وأناقته لتلبسه في نهاية تلك الرحلة حلة زاهية الالوان تليق بوجوده!

حلة زاهية!

ماذا؟ حلة زاهية؟ آسفة، نسيت ان اشير من البداية الى الحلة الجميلة.. انها غلاف كتابي، الذي اخذ مني وقتاً طويلاً في تصميمه وإعداده للتنفيذ.. فقد بدأت بالتخيل والتصور ووضع بعض النماذج لغلاف جديد يختلف عن اغلفة كتبي الأخرى.. أخيراً صممت ثلاثة اغلفة مختلفة الاشكال والالوان.. حملتها متفائلة مستانسة وعرضتها اولاً على زوجي جواد النجار (بوحسام) لتذوقه وحسه الفني.. وبعد ارشاداته الفنية.. عرضتها على الاصدقاء المقربين، فكانت هناك بعض التوجيهات ايضاً، وبعد ان اقتنعت ببعض وجهات نظرهم الفنية ـ لأن رأسي يابس ـ أخذت يدي تعيد تشكيل المحتويات وتغير الألوان وتبدل الاتجاهات وتشطب وتضيف حسب ارشادات الجميع وهكذا استقر الرأي النهائي على غلاف مختلف تزينه الالوان التي اعشقها، الأحمر، الازرق، والبرتقالي، وهكذا احتضن هذا الغلاف بين دفتيه حصيلة سنين من عصارة الفكر ودم القلب!

ها هي الرحلة قد شارفت على النهاية.. اغمضت عيني لافتحها، فأجده قد استوى سفراً جديداً بغلاف جميل اعجبني وأعجب من حولي من الأهل والاصدقاء.. ات
منى ان يعجبكم.

في تلك اللحظة وأنا احمله انتابني شعور لذيذ، وحين تأملته طويلاً تنهدت بقوة.. كم مرة آلمتني يدي الي
منى لتتوقف عن الكتابة، وقبل ان تنتهي فترة العلاج الطبيعي كنت اسرق الوقت واختفي عن انظار عائلتي حتى اعود لكتابة هذه المقالة أو تلك المتابعة.. اتألم ثم اتغلب على الوجع واكتب.. فالكتابة قدري الجميل الذي اعشقه منذ الصغر.. وكم مرة داعبني صداع خفيف ضيعته بالكتابة.. ناهيك عن آلام الظهر والرقبة وغيرها، وكم مرة نسيت مواعيد اكلي وشربي وأوقات راحتي.. وكأن راحتي هي الكتابة وشبعي هو القراءة ـ لأن متعة الكتابة لا تعادلها غير متعة القراءة ـ تلك هي الضرائب المستترة غير المرئية التي يدفعها الكتّاب والمبدعون.. ولكن هل يشعر بها الآخرون؟ كم مرة تساءلت لماذا الكتابة والى متى نظل ـ كمبدعين وكتّاب ـ نكتب؟! الحقيقة انني لم استطع ان اجيب عن هذا السؤال المحير!

عودة أخرى الى رحلتنا.. هكذا انتهت الرحلة مع آخر انتاجاتي (للكتابة لون آخر).. حملت كتابي برفق ووضعته بعناية لصيقاً لاخوته الستة الذين سبقوه الى رفوف مكتبتي.

مخطوطة أخرى !

 


فجأة، قفز الى ذهني جواب سؤالي المحير الذي طرحته على نفسي وعليكم ايها الاحبة.. لأنني ما ان وضعت كتابي الجديد هذا على الرف مع اخوته.. حتى فاجأتني مخطوطة اخرى بابتسامة انثوية مستحية وكأنها تناديني..

ما ان انتبهت لها حتى جلست من دون وعي خلف مكتبي الكبير المثقل بأكداس من الأوراق والدفاتر والملفات الملونة.. مندسة كانت تلك المخطوطة الخجلى بين الملف الاحمر وزميله الازرق ومحشورة بين كومة أوراق.. خطفتها يداي.. تصفحتها عيناي لدقائق.. بغفلة عني بدأت اغير بعض الكلمات واضيف احلى المعاني واشطب اخرى ازعجتني.. على أمل ان احملها الشهر القادم في رحلة جديدة بين الايادي الفنية وآلات الطباعة ذات التقنية الحديثة ـ لا تخافوا لن آخذكم معي المرة القادمة ـ بصراحة الآن فقط في هذه اللحظة والمخطوطة الجديدة بين يدي ادركت ان للكتابة سحرها الغريب وللكاتب سره العميق!

منى الشافعي )

 

 

0 Comments:

Post a Comment

<< Home