برنسيس إيكاروس

Saturday, May 31, 2025

 

    •  
    • لقطة!
    • ***
    •         كنت تتهادين ، بلونك الأحمر ،  مع لفحات نسيم ذلك المساء البلوري    
    •        فجأة !  .. يمر قربك . حين يصافحك وجهه المتعب ، تبتسمين . تجذبه رائحة عطرك الشجي . يقترب أكثر ، تنعشه الرائحة. تعود لوجهه نضارة الشباب . يطيل النظر إليك . كأنه يتذكر شيئاً ما ..تمتد يده                                                   
  • ***
    •               تدخلان معاً . . البيت صغير ، لكنه أنيق وجذاب ، تفوح منه رائحة عطر أنثوي .كانت في الشرفة تنظر إلى اللاشيء . تقتربان منها في حذر .
    •        فجأة ! تلتفت صوبكما .. فتاة تقطر حلاوة بغلالتها الشفافة مزينة بحمرة الغروب . عيناها الخضراوان مملوءة بالدموع . يقدمك إليها .تقترب منك أكثر ، حتى تلامسين طراوة شفتيها ، وتبللك دمعة هاربة . تشعرين بنبض قلبها الصغير .
    • ثم     ...... ......
    •                    تبتسم الجميلة ، تتحول الابتسامة إلى قبلة ، القبلة إلى عناق ، ترتمي عليه ، يتوهان معاً
    •                           ***                                   
    •                اليوم الثالث يقترب من نهايته . لا تزالين ترتدين صمتك . تشتهين الحياة ولكن  .. ؟!
    •  
    •                  يخرج يقبلها تتلون كقوس قزح .. يعود يضمها تشتعل كنغمات الكمان . يسعدك هذا الحب . تبهجك تلك السعادة .
    •                 إطلالة اليوم الرابع ضبابية . تزدادين ذبولاً . تتيبس أوصالك . تغادرك نضارتك . الجفاف يكاد يهلكك .
    •         ياااااااه .. قدرك !         
    • في هذه اللحظة الغائمة ، تدخل الجميلة ، تنتبه لوجودك ، ملقاة على طاولة صغيرة في الشرفة .
    • قبل أن ترميك في سلة المهملات .. تتناول الآيفون لتلتقط صورة موتك !      

 

الإحساس بالطبيعة

***

    أعتقد أن كل شيء في الطبيعة ، عنده إحساس ومشاعر " إنسانية " .. وله  لغة خاصة يعبر بها عن هذه العواطف.

        تقع هذه الشجرة في السور الخلفي لبيتنا .. لذا كنت دائمة النظر إليها ، زاملتها ما يقارب الخمس سنوات .

      بصراحة جذبني حد التأمل ، هذين الغصنين ، اللذيّن ابتعدا عن الأغصان الأخرى التي تشكّل تلك الشجرة الوارفة /الممتدة / العالية .

    اليوم اقتربت منهما ، سمعت همساً ، يقول الهمس :

                                                         - سأظلّ أقترب منكِ ، حتى لو انحنى جسدي أكثر وأكثر .. أتدرين.. قربك جنتي ؟

 

تلك الابتسامة .. 

**** 

كنت أعتقد ان كل شيء في الحياة سيظل كما هو، يسير على روتينه اليومي، بلحظاته البسيطة، وتفاصيله الدقيقة. ولكن بعد ان سكنتني كثير من التجارب، وامتدت سنوات العمر، كهبة نسيم أمام غفلتي، أدركت ان الحياة تتغير، فهي ليست تلك الحفلة التي نتوقعها دائما، ولا تلك المأساة التي نتخيلها أحياناً. لذا، يجب علينا أن نحترم ما نملكه، ونقدر ما عندنا من نعم الله سبحانه، كلحظة فرح تسعدنا على بساطتها، أو ساعة مرح تُحفزّنا للحياة، لنصبح أنفسنا لا غيرنا. وبالتالي فطالما تتخذ الحياة بعض القرارات نيابة عنا، وتغلق الباب خلف دهشتنا، فما علينا إلا  أن نتقبل قرارها

*** 

بعد ان أُغلق الباب خلفي، وجدتني ممددة على جهاز طبي ضخم، يتمتع بتكنولوجيا حديثة جدا لشد العمود الفقري وتخليصه من آثار الخشونة التي تجرأت على بعض فقراته

غرفة صغيرة دائرية الشكل جدرانها بيضاء ناصعة.. هدوء، يكسره بين دقيقة واخرى صوت الجهاز الذي يعمل بطريقة الشد والارتخاء، خلال ساعة زمن قضيتها بصحبته

بعض الالم يطفر من عيني، يتعلق بتلك الفتحة الصغيرة الدائرية الشكل، التي تسكن منتصف السقف، تتزين بنور خافت مريح، يبدو لي كأنه خيط نور من نسيج القمر، يتدلى منه بعض الامل. شيء رائع، لا يشعر به الانسان في لحظات يومه المشحون بأموره الحياتية الاخرى، انها ساعة ألم لا تخلو من متعة التأمل والتخيل والتفكر

***

في هذه الساعة، في هذه الغرفة المغلقة، فوق هذا الجهاز الطبي الغريب، تذكرت كل امور الحياة الصعبة والاكثر تعقيدا من هذا الجهاز، فحمدت الله سبحانه. والاهم اعترفت لنفسي كم هي الحياة ضعيفة ، أو بعبارة أخرى، كم هو الإنسان الحلقة الأشد ضعفاً . ولحظتها انتبهت الى قيمة الاسرة، الاهل، الاصدقاء وكل الطيبين من البشر

مع الألم، ادركت مدى اهمية مد اليد ومساعدة الغير، ان كنا قادرين. فما أجمل ان تفاجئني ابتسامة الممرضة الشابة التي تعدت تقاطيع وجهها قبل يدها التي امتدت لتساعدني على النزول من الجهاز. شيء جميل ان نساعد الآخرين قدر استطاعتنا، والاجمل ألا يتوقف هذا العطاء الانساني في حياتنا اليومية، حتى وان كان تلك الابتسامة.

 

 

للطفولة بريق جذاب!

***

      عندما تنتابني بعض الهواجس والأفكار والرؤى المتداخلة، و تتراكم متطلبات الحياة الخاصة والعامة فوق كتفي، تتصارع في داخلي رغبات حياتية كثيرة وطموحات متناقضة.. تتعبني وتثقل رأسي وتزدحم في مخيلتي فتزيد من ثقله وتعبه.. فنحن نعيش في عالم صاخب متحرك يضج بالمتغيرات اليومية والتحولات السريعة لنبض الحياة.. أما الهدوء والسكينة.. العزلة والوحدة.. التأني والتروي .. فليست من أبجديات هذا العصر، وبالتالي نتمنى دائماً تحقيق رغباتنا اليومية بسرعة جنونية.. فعندما تهاجمي تلك الرغبات المحمومة، وقبل أن أختنق من تنوعها وفوضويتها، أجدني وقد سيطرت عليّ رغبة ملحة بتذكر طفولتي وبساطتها واستعادة بعض أدق تفاصيلها.. فأنا مسكونة بطفولتي رغم سني وكثرة تجاربي الحياتية، مازلت أحتفظ بداخلي ببقايا صورها الحلوة الجميلة.. وأعتقد أن تدليل أمي لا يزال يلفني بحنانها و دفئها.. أما لذة حليبها فلا يزال يرطب جفاف لساني.. فحبي لأمي تجاوز الحدود – يرحمها الله- .

 

       دائماً أتذكر حي الشرق.. مرتع الطفولة والصبا ببحره الأزرق الشفاف وشواطئه الرملية المنبسطة.. وأحلامي الصغيرة التي نمت وكبرت بين "سكيكه وفرجانه" وتعرجات دروبه.. يسحبني الحنين إلى بيتنا الصغير البسيط وكأنني أعيد بذاكرتي بناء ما تهدم من ذلك الحي القديم وتراثه العريق الذي أزالت معاول الهدم الحديثه معظمه وقضت على معالمه العتيقة.. فذاكرة الطفولة تلتصق بذاكرة المكان بكل تفاصيله وجزئياته الصغيرة، فعندما يتعلق الإنسان بمكان ما ، من الصعوبة أن ينساه، أو ينفصل عن الذاكرة.

       أعشق طفولتي.. أعتز بذكرياتها على بساطتها.. فهي لا تزال تملأ قلبي بالحب والفرح.. الشوق والحنين لأيامها البعيدة الحلوة، ولن أسمح لها أن تغادرني أبداً فلا تزال تعيش معي بكل ألوانها وصورها وكأنها حدثت البارحة.. فحين أجلس في سكينة مع نفسي وأسترجع بعضاً منها، أشاهدها بوضوح نقية صافية وكأنني أشاهد فيلما سينمائياً صور حديثاً بالألوان.\.. يا له من حب وتعلق بأحلام الطفولة!

* * * *

       تقول الفيلسوفة "ديوتيما" صديقة سقراط (إننا نقتطع نوعاً واحداً من الحب نطلق عليه اسم الحب- الحب العاطفي الرومانسي بين رجل وامرأة- في حين أن كلمة الحب تطلق على جنس أو نوع أعم وأشمل من هذا الاستخدام الضيق.. فإن الحب يطلق على كل رغبة عند الإنسان"... لذا فتعلقي بطفولتي هي الرغبة التي ستظل مشتعلة في داخلي.. وهي الحب المميز الذي لا ينطِفئ أبداً في حياتي.. فللطفولة بريق جذاب يسحبني رويداً رويداً من تلك الأمكنة الصاخبة بنبض هذا القرن إلى ركني الذي أفضله في البيت.. كم أحب أن أفترش أرض هذا الركن ويدي تتكئ بنزق على إحدى الأرائك (القنفات).. أُغمض عينيَّ على حلاوة الماضي.. أتأمل.. أسترجع خزين الذاكرة.. ألتقط بشغف بعض الصور المرتجفة والمتناثرة في الذاكرة لطفولتي ولتلك الأيام البريئة البسيطة التي عشناها نحن جيل الخمسينات.. ها هي والدتي الحبيبة تفترش البساط الأحمر الوحيد الذي نمتلكه لنفرشه في الحوش في المساءات الجميلة، وأمامها ماكينة الخياطة، وقد ارتاحت بين يديها الماهرتين قطعة قماش قطنية زاهية بلونيها البرتقالي والأصفر وقد انتثرت زهور بيضاء صغيرة بتناغم جميل فوق اللونين.. أليست حالة غريبة أن تختزن ذاكرة الطفولة ألوان هذا القماش ونقوشه التي تزينه؟!.

       برشاقة يديها.. بابتسامتها المعتادة وبلمحة الحنان التي تميزها، تدير أمي ماكينة الخياطة بهدوء ورقة.. .أشعر وأنا أنظر إلى حركتها أن قطعة القماش أخذت تتلوى ثم تتشكل وأخيراً تتغير معالمها.. و فجأة! تتوقف حركة الماكينة ويختفي صوتها الرتيب للحظات، ليقوم المقص الكبير بواجبه..,هكذا تتناوب الماكينة والمقص على قطعة القماش لبضع ساعات، حتى تنتهي الوالدة من تفصيل وحياكة ذلك الفستان الجديد الذي سأتفاخر به بين أقراني الصغيرات حين ألبسه – وأكشخ به- في مساء اليوم التالي !!.. أما القماش الجميل فقد اشترته أمي من البائع المتجول سالمين- راعي الخام- ذلك الإنسان البسيط الطيب الودود.. أين أنت الآن يا سالمين؟!.

       أما أخوايْ الصغيران فكانا يلهوان ويلعبان مع أقرانهما الصبيان في الفريج أمام البيت.. قطتنا البيضاء الجميلة- القطوة عبُّول- كانت تلهو ببعض الخيوط الملونة التي سرقتها من علبة أدوات الخياطة بغفلة من الجميع،ها هي تتقافز هنا وهناك معلنة عن فرحتها وبهجتها هذا المساء.

        والدي الحنون – يرحمه الله –تسترجعه ذاكرة الطفولة وهو جالس في تلك اللحظة وبين يديه أحد كتبه الأدبية التي لا تفارقه أبداً فقد كان شغوفاً بقراءة الشعر والأدب.. أتذكره جيداً جالساً على كرسي من الخشب يزين ظهره- الكرسي- مربعات متداخلة من خشب البامبو الرقيق، وقد تآكلت وتقطعت بعض تشكيلاتها  المتشابكة لتصبح بلا شكل محدد.. أما قوائمه –الكرسي- فيزين إحداها شرخ طويل لف حوله خيط سميك بعناية وقوة.. الحمدلله أن والدي لم يكن يعاني من السمنة وإلاَّ !! أما الوالدة فلم تتشجع يوماً لتجلس على هذا الكرسي خوفاً من..!!.

       أما تلك الطفلة المدللة.. فقد كنت ألهو مع دميتي المصنوعة من القماش المحشو بالقطن وقد ارتدت فستاناً جميلاً حاكته أمي من بقايا الأقمشة، تزينه بعض الإكسسوارات البراقة – الترتر- المتوفرة آنذاك... كنا نسمي هذا النوع من الدمى "الكردية"... أقول كنت ألهو بشغف مع دميتي الجميلة، والقناعة تغلف داخلي والفرحة تسكنني والمتعة تملأ روحي الصغيرة.. ذلك عندما كانت الحياة بهذه البساطة وتلك العفوية المحببة والشفافية الرائعة.. فكانت قبلة أبي الحنون على خدي وعناق أمي المحموم في تلك اللحظة البلورية الصافية العذبة، ودخول أخوَايْ الصغيران فجأة! من الباب، بصراخهما المعتاد، وضجيج ألعابهما، وصوت الباب المزعج وهو يُصفق من يد أحدهما بقوة طفولته... تلك اللحظة المتداخلة بالحب والحنان والصخب والضجيج واللعب والجد.. كانت عندي قمة السعادة التي نتطلع إليها نحن أطفال ذلك الماضي البسيط.. يا لها من متعة نشتاقها ونَحِنُّ إلى تفاصيلها وشفافيتها.. دمية.. قبلة.. عناق..  قطة.. بساط أحمر .. كرسي تزينه الضمادات.. وصراخ الصغار وصخبهم.. إذن، ليست المسألة لحظتها ما نملك، ولكن كيف وكم نستمتع بما نملك حتى وإن كان أقل القليل.. هذا الذي يخلق القناعة لتظللنا السعادة بأوسع أفيائها..!!!

* * * * *

       مع أن الأزمنة قد تغيرت، والأمكنة قد تبدلت، والأشياء  تنوعت، والصور تجددت، إلا أن طفولتي بدقائق أمورها لا تزال تسحبني بقوة لتذكرها.. ها أنا أشم رائحة قالب الكيك- قرص عقيلي- عند عودتي من المدرسة ظهراً في فصل الشتاء البارد- كانت أمي تخبزه على منقل الفحم ( الدّوة)- وبقربه ارتاح إبريق- قوري- الشاي ودلة الحليب المعطر إما بالزعفران أو الهيل أو الزنجبيل.. يا لها من قطعة كيك وكوب الحليب الذي أعشقه صافياً يتصاعد البخار منه ليرسم تشكيلات غريبة تتراقص في فضاء الغرفة الصغيرة.. ويا لها من صرخة حنونة من فم الوالدة تنهيني عن أكل تلك القطعة من الكيك وشرب كوب الحليب قبل تناولي وجبة الغذاء.. .لأنه حسب توقعات أمي ستسد نفسي عن وجبة الغداء.. بينما توقعاتي.. أن قطعة الكيك هذه ألذ وأطيب من "مطبق سمك" أو " مجبوس لحم".. أو " مرق بامية " لكنني كنت عنيدة ومتمردة ورأسي يابس.. وكأنني الآن بتذكري أشعر بلذة هذه الكيكة وأشاهد بوضوح تشكيلات بخار الحليب الساخن.. ولكنني لا أتذكر شيئاً عن وجبة الغداء!!

* * * *

    يأتيني الآن صوت – بوطبيلة- في ليالي رمضان الكريم، ينادي بصوت عالٍ مبحوح ممزوج بشيء من الحنين ( يا نايمين.. السحور) .. وهو يضرب بقوة على طبلته كي ينبه أهل الفريج لدخول موعد السحور.. ساحباً بيده حماره الهزيل المسكين الذي أتعبه طول الليل. ليتناغم صوت أبو طبيلة مع رنين الجرس المعلق في رقبة حماره.

* * * *

        أتذكر ليالي الشتاء الباردة .. حيث كانت الأمطار تبدأ برذاذ خفيف قبل أن تشتد.. وكان منظر الماء بتساقطه الرتيب يجذب الأطفال الصغار للهو واللعب تحت قطراته العذبة... كانت الفرحة ترتسم على تلك الوجوه الصغيرة البريئة فتبدأ الأفواه العطشى بترديد الأهازيج مثل .. ( طق يا مطرطق.. بيتنا يديد.. مرزامنا حديد).. يصاحب هذه الأهازيج الرقص والتقافز إما بالحوش أو في الشارع – السكة- حتى تبتل ثيابهم وترتجف أبدانهم وتدور رؤوسهم الصغيرة من الدوران حول أنفسهم.. وحين يشتد المطر أكثر وأكثر.. تخرج الأمهات فجأة! تبحثنَّ عن الصغار!! تختلط الأصوات.. كل أم بمناداتها، من تلوم، ومن تصرخ بحنان، ومن تضرب برفق، وهكذا تتلون طرق العقاب في البيت حيث الإحساس بالدفء والأمان والحب والحنان مهما كان العقاب شديداً... وغالباً ما يكون لوماً وضرباً خفيفاً يُضحك الصغار ولا يبكيهم..

* * * *

       أمام باب المخبز... تأتيني رائحة الخبز الخمير- خبز التنور- الدّبل المزين بحبات السمسم.. بعد أن يعدالخباز للخمسة يناولني أقراص الخبز الساخنة.. أتحرك عائدة إلى البيت الذي لا يبعد حتى عشر خطوات عن المخبز.. أرفع الأقراص بيدي الصغيرتين المطبقتين بقوة على حافة الأقراص.. أقربها من أنفي، أتلذذ بشم رائحتها الطيبة التي تنفذ إلى معدتي قبل أنفاسي.. يا لها من رائحة تستعبدني، لأبدأ بالتهام الفقاعات المحمشة التي تعلو وجه القرص الأول- هذا ما سمحت به المسافة- والتي دائماً تغريني فأقضمها بأسناني بقوة وأتلذذ بأكلها وكأنني ألتهم صحناً من الآيس كريم في وقتنا الحاضر.. ها هي والدتي تنتظرني أمام باب البيت كالعادة تراقب حركاتي.. تتناول الخبز من يديَّ الصغيرتين وقبلة الشكر تسبقها إلى خدي.. تبحث عن القرص الذي نتفت كل فقاعاته اللذيذة ثم حشرته بذكاء طفولي بين إخوانه الأربعة حتى لا أحد يكتشف فعلتي وبالتالي يعاقبني.. ولكن أمي تجد ذلك القرص المندس بين أقرانه.. تلتقطه بخفة.. وقبل أن يدخلني الخوف وترتجف أوصالي..تفاجئني ابتسامتها الحانية.. ثم ضحكتها العالية التي  تريحني وتخفف توتري .. تتركني وتذهب إلى المطبخ أتنفس الصعداء!!.

يا لتلك الذكريات الملتهبة بالحنين والموسومة بالشوق، المغلفة باللهفة، المزدانة بالحب والألفة، المتدثرة بكل أنواع البساطة والعفوية والشفافية وفطرة الماضي.. لنوجه اليوم هذا السؤال إلى أبنائنا – نحن أطفال الخمسينيات-:

هل لطفولتهم نفس هذا الوهج الوضاء وذاك البريق الأخاذ وتلك الجاذبية القوية التي تشكل ملامح طفولتنا؟!!.

 

     

.. للطفولة التي تسكننا!

                                              ***

        منذ سنوات طويلة وأنا أتابع بشغف أحد المسلسلات الأمريكية الذي تعلقت بأحداثه اليومية المتنوعة والمثيرة أحياناً.

        لقد أعجبتني وشدتني إحدى حلقاته التي شاهدتها مؤخراً، تركز على فصل جديد من حياة ابنة عائلة لوغن صغرى البنات والأولاد، واحتفالية زفافها.

        تربت "كايتي" مع إخوتها في أسرة متوسطة الحال، بين أم كادحة تعمل بتجهيز الطعام للحفلات والأفراح، وأب غائب عن البيت يطارد رزقه في أكثر من مكان. أما كايتي فحتى الدمية البسيطة كانت تتلقفها يداها الصغيرتان بعد أن تكون قد مرت تلك الدمية على الأخت الكبرى أولاً ثم الأصغر إلى أن تصل إليها بالنهاية نصف ممزقة.. ومع هذا كانت ترسم فرحة كبيرة على وجهها الطري حين تُقبّل تلك الدمية الممزقة الثياب والمخلوعة الكتف، بشغف وامتنان.

* * *

        كبرت كايتي، تنقلت بين المراحل التعليمية، تفوقت، حصلت على الشهادات التي تؤهلها للعمل المحترم، اجتهدت كثيراً حتى ترقت إلى مديرة علاقات عامة في إحدى دور الأزياء الشهيرة في مدينتها لوس انجلوس.

        تشاء الصدف الجميلة أن يُعجب بها شكلاً وخلقاً وروحاً، المالك الجديد لهذه الدار، والذي يمتلك الكثير من المؤسسات الأخرى المرتبطة بعالم الموضة والأزياء.. و الأجمل لم تمضِ أشهر قليلة حتى عرض عليها ذلك المليونير العازب رغبته بالزواج منها.. لكنها حين وافقت اشترطت عليه أن يقام حفل ومراسيم الزواج في المتنزه الصغير البسيط الذي يطل عليه بيت أسرتها القديم وبيوت جيرانهم في ذلك الحي المتواضع الذي نشأت وتربت بين أزقته وبساطة سكانه.. أما ضيوف الحفل فستكتفي بأفراد الأسرتين المقربتين جداً، وأطفال الحي الصغار المتواجدين بالضرورة للهو واللعب في المتنزه يوم الأحد، مع أمهاتهم بملابسهم البسيطة المتسخة من اللعب على الحشيش الرطّب.. ومع أن الزوج المليونير الذي يمتلك أضخم وأشهر دار للأزياء، إلا أنها اختارت فستاناً بسيطاً جداً، بلون زهر الياسمين، تحلي شعرها وردة بيضاء صغيرة تزيد لونه الداكن بريقاً، وتظهر طبيعته المنسدل على كتفيها بخيلاء.. والأهم اختارت سيارة والدتها الحمراء القديمة جداً، لتزف بها.

        أما الزوج/ العريس، بداية كان قد عرض عليها أن تختار مكاناً مميزاً لإقامة حفل زواجهما الذي سيحضره طبعاً علية القوم، وطلب منها إقامة الحفل في يخته الفاره الفريد من نوعه مع ضيوف النخبة.. أو أن تختار بين أضخم فنادق باريس وأجملها.. أو إحدى ساحات روما العريقة، أو أشهر فنادق لندن، أو أرقى وأضخم وأكبر فنادق العالم في لاس فيجاس، أو في بفرلي هيلز أو هوليوود.. كل هذه الخيارات الخيالية الثرية لم تفتح شهية حرمانها الطفولي، وآثرت طلبها إقامة ذلك الحفل البسيط بكل مقاييسه في متنزه الحي المتواضع وذلك عن قناعة ورغبة صادقة، اعترافاً بجميل ذلك المكان الذي كان لها ملاذاً آمناً في طفولتها الفقيرة، تلعب و تمرح فوق عشبه الطري، وتتسلق بعض أشجاره القصيرة، وتختبئ خلف شجيراته المنتفخة، مع إخوتها وأقرانهم من أبناء الجيران.

* * *

        حين تحدث والدها في الحفل وذكر بكل فخر واعتزاز دميتها العتيقة البسيطة، التي كانت تسعدها وتؤنس طفولتها، لم تتحرج، بل أشرق وجهها بابتسامة رائقة، أما نظراتها فقد تعلقت بنافذة غرفتها الصغيرة المطلة على المتنزه، مع دمعة بللت خديها الورديين.

        ظلّ الزوج/ العريس المليونير، مبهوراً مأخوذاً بما يحدث، لم يكن يعتقد أو يتصور، أن حفلاً بسيطاً في ذلك المتنزه الصغير في حي متواضع، له كل هذا السحر، وذاك التألق الذي سكنه.. ولكن يبدو أن السحر كان نابعاً من الروح الجميلة العذبة التي كانت تتحلى بها العروس، الشابة كايتي، التي جعلت جميع الحضور يتسامون بروحانية ابتعدت عن الغلو في الماديات، والتباهي بالثروات، والتفاخر بمظاهر الغنى.

* * *

        بعد انتهاء مراسيم الزواج، وبعد تلقي العروسان التهنئة من الحضور، تقدمت كايتي جلست خلف مقود سيارة والدتها القديمة، التي تحكي أيضاً جزءاً من طفولتها، ليقفز الزوج فرحاً، مبتسماً محتلاً المقعد الأمامي قرب زوجته الرائعة.. أدارت كايتي المقود بيد، ولوحت بالشكر والامتنان للحي وأهله وناسها باليد الأخرى.

* * *

        أعتقد أن حفل الزفاف كان رائعاً، عاطفياً أكثر منه محملاً بالمظاهر الآنية التي تضيع من الذاكرة بعد فترة أما الأحاسيس والمشاعر هي التي ستبقى ولن تغادر الذاكرة.

        كما أعتقد أن كايتي شابة من نوع آخر.. أنموذجاً ملائكياً، قلَّ ما تجد له مثيلاً في هذا الزمن الذي تحكمه الماديات، وتلتصق به المظاهر والبهرجة بأنواعها وأشكالها وألوانها.. ولكن يبدو أن هناك مَنْ لا يزال يحمل إحساساً رقيقاً عذباً صادقاً للطفولة التي تسكنه!.

 

 

 

 

Thursday, May 29, 2025

 

                                            
* أنا .. وسنة الهدامة


      ذات ليلة غاضبة باردة من ليالي الشتاء ، كان المطر يهطل على المدينة الصغيرة عاتياً جارفاً ، والريح مجنونة تصرخ في المكان ، كما الليلة هذه ، وكان الزمان لحظتها غير هذا الزمان . 

         كنت طفلة أهرب من الخوف الى أحضان أمي الدافئة ، أشعر بالدفء والأمان ، أنام ملء جفوني . 

في الصباح لا تزال الريح تزمجر والأمطار تهطل بشدة .    في بيتنا الصغير يضعف حائط الطين المسكين فيتهاوى نصفه أمام عينيّ الصغيرتين ، وأنا أحمل حقيبتي المدرسية ، ذلك الحائط الذي صمد طوال الليل معانداً تلك العاصفة الهدامة . أرتجف فترتعش يد أمي التي لا زالت تزرر معطفي وتلف الشال الصغير حول جدائلي الطويلة . أرتعب أكثر وأنا أحدق في عمق الحائط المتكوم في طرف حوشنا الصغير . تضمني أمي إلى صدرها ، تطبع قبلتها الدافئة على وجنتي ، تودعني ، مدرستي قريبة من البيت ، إنني اعشقها . أكره الغياب عنها حتى لو يوم واحد ،أتوجه بإصرار وأسير بحذر .  

       تزداد العاصفة غضباً ، أزداد ارتجافاً تحت معطفي القصير ، أشعر بالبرد يقرص أطرافي ، وقشعريرة ملعونة تداعب جسدي الطري ، أتوجع . أصعد ببصري نحو السماء ، أنقل رسالة متوسلة . تهدأ العاصفة ، أواصل السير . 

      فجأة ! في لحظة يتبدل كل شيء حولي ، يتشقق حائط آخر أمام عينيّ المذهولتين ،  بلحظة يتهاوى ، أصرخ ، أجري مبتعدة ، يفاجئني ذلك الدكان الصغير المتكوم في الطريق ، وبابه الخشبي مغروس في الطين مائل إلى الأمام ، جدار آخر يتمايل ، يتكوم ، تضيع صرختي ، أواصل الركض . 

المسجد الذي طالما كنت أحتمي بحوائطه من شمس القيظ اللاهبة ،  تكومت تلك الحوائط واختلطت ببعضها أمام عينيّ الدامعتين ، المرتعبتين ، لا يزال صراخي يختلط بدوامات الريح العاتية ، وبكائي يختلط بصوت الرعد فيضيع . 

لعبت الفوضى بجدائلي ، انزلق الشال عن رقبتي ، اختطفته الريح .. مزقته .

‏ازداد رعبي وتسارعت دقات قلبي حين فاجأتتني تلك الحفر التي تنزف الماء والأ خاديد الغريبة التي رسمتها يد السيول الجارفة. تابع تابعت الركض والصراخ والبكاء والعاصفة ما زالت تصرخ معي وتجول تقربني من  مدرستي تارة وتبعدني قوتها تارة أخرى فتقذفني بعيداً .

   ‏دبت بعض الحياة حولي ابكي وتموت على شفتي المزرقتين تساؤلاتي وأنا اقلب وجوه المارة المتراكضين من حولي .. ابحث عن وجه أمي.

   ‏فجأة فترت العاصفة هدأت الريح توقفت الأمطار في لحظة نسيت خوفي وفزعي وتمردت على ذعري اخذت أقفز فرحة الهو مع حبات المطر التي ما زالت تتساقط وأرقص مع الريح الحنونة أدور حول نفسي أصفق وأدق الأرض الرطبة المبلولة برجلي وكانني أبعد  عني شبح البرد والخوف.

   ‏ واصلت السير ولم تمنع  شهقتي العالية قدمي صغيرة من أن تنزلق لتعلق في حفرة مطمورة بالطين غارقه في السيل بعد محاولة أليمة نهضت خائفة أجري وقد فقدت فردة حذائي في قعر الحفرة الطينية اللزجة لتستمر شهقاتي ومناداتي حتى لمحت بعض العباءات السوداء ملتفة حول قامات كبيرة وأطفال يتراكضون و يتصايحون في حوش مدرستي الكبير هرعت الأمهات وتبعها الآباء ليحتضنّ الصغيرات المذعورات تلفت صوب الكبار اتفرس في الوجوه حتى تكسرت في جوفي كلمة ماما.. ماما..  ماما.

   ‏فجأة ظلمت السماء زمجرت الريح وعاودت الأمطار هطولها خارت قواي ما زلت أصرخ احتضنني وجه أمي الملتاعة من بعيد قفزت نحوها تكونت في حضنها لفتني بعباءتها المبللة الغارقة في الوحل والطين شعرت بالدفء يغزو جسدي المرتعش  امتزجت دموعنا واختلطت خفقات قلبينا.

 

****

ذكرى سنة الهدامة التي مرت على الكويت في شتاء عام 1954.     

Wednesday, May 28, 2025

 فستان العيد الأ حمر ..وحكايته

  *******

      ‏إنها ليلة العيد ..  سألت نفسي هل تتذكرين طفولتك وفستان العيد الأحمر ؟

‏نظرت إلى لا شيء ..

‏ثم استحضرت عيداً بعيداً ، كان يرقد بقدسية في حنايا الذاكرة ، فتذكرت الماضي الراحل في عتقه ، والمتغلغل في فرح طفولتي الجميلة ، لتتصاعد وتتوهج  فجأة تلك الذكريات .

    ‏إنها ليلة العيد ..

‏كنا صغاراً نرسم الحلم فراشات ملونة ، على وجوهنا البريئة ، فيحلّ الفرح بيننا ، ويعشقنا المرح ، ونلهو ونصرخ ونغني ، ونردد أهازيج العيد ، على نغمات أقدامنا الراقصة .

‏في ليلة العيد تلك..

‏خطفت فستاني الجديد ، الدانتيل الأحمر ، المزيّن بشرائط قطيفة سوداء ، وياقة أوركنزا بيضاء ، من يد أمي الحبيبة ، وهي فرحة مبتسمة ، تفر السعادة من عينيها الملونتين / الخضراوتين .

‏في ليلة العيد تلك..

‏تجمعت كل رغباتي الطفولية ، وأنا أحتضن فستان العيد الجديد ، كدميتي العزيزة ، وأقبله ألف قبلة .

وبحرص الطفولة وخفتها ، طرحته على فراشي ثم نمت قربه ، وأرخيت جدائلي الطويلة حوله ، تحيطه ذراعاي الصغيرتان . وهكذا ظللّت أعانقه ،حتى هرم الليل ومرقت ساعاته من بين ضفائري ، وأنا أحلم بفجر عيد مشرق جميل .

   ‏أستفيق .. عندما هزتني يد أمي الحانية ، هامسة بعذوبة بحة صوتها :

        - صباح العيد يا مناوي* .

‏تذكرت .. أنني عشقت فستاني ، وأحبَّ جسدي ، فلم يفارقني حتى تمزقت شرائطه ، وبهتت ألوان نقوشه وزخارفه .

‏و لحظتها بكينا معاً!

‏ياااه انتبهت ..

‏ لينساب الماضي راحلاً بعيداً عني ، مسافراً في الزمن الذي مضى ، تاركاً طفولة حائرة ، في الزمن المتدفق حولي بصخبه وضجيجه ، وذكرى طفولتي العطرة ، وفستاني الأحمر الجديد الذي لن أنساه !


*مناوي / اسم الدلع لإسم  "منى "!