الجابرية والطابق الثاني
| |||||
| |||||
| ||||
| |||||
منذ سنوات طويلة وأنا أتابع بشغف أحد المسلسلات الأمريكية الذي تعلقت بأحداثه اليومية المتنوعة والمثيرة أحياناً.
لقد أعجبتني وشدتني إحدى حلقاته التي شاهدتها مؤخراً، تركز على فصل جديد من حياة ابنة عائلة لوغن صغرى البنات والأولاد، واحتفالية زفافها.
تربت "كايتي" مع إخوتها في أسرة متوسطة الحال، بين أم كادحة تعمل بتجهيز الطعام للحفلات والأفراح، وأب غائب عن البيت يطارد رزقه في أكثر من مكان. أما كايتي فحتى الدمية البسيطة كانت تتلقفها يداها الصغيرتان بعد أن تكون قد مرت تلك الدمية على الأخت الكبرى أولاً ثم الأصغر إلى أن تصل إليها بالنهاية نصف ممزقة.. ومع هذا كانت ترسم فرحة كبيرة على وجهها الطري حين تُقبّل تلك الدمية الممزقة الثياب والمخلوعة الكتف، بشغف وامتنان.
* * *
كبرت كايتي، تنقلت بين المراحل التعليمية، تفوقت، حصلت على الشهادات التي تؤهلها للعمل المحترم، اجتهدت كثيراً حتى ترقت إلى مديرة علاقات عامة في إحدى دور الأزياء الشهيرة في مدينتها لوس انجلوس.
تشاء الصدف الجميلة أن يُعجب بها شكلاً وخلقاً وروحاً، المالك الجديد لهذه الدار، والذي يمتلك الكثير من المؤسسات الأخرى المرتبطة بعالم الموضة والأزياء.. و الأجمل لم تمضِ أشهر قليلة حتى عرض عليها ذلك المليونير العازب رغبته بالزواج منها.. لكنها حين وافقت اشترطت عليه أن يقام حفل ومراسيم الزواج في المتنزه الصغير البسيط الذي يطل عليه بيت أسرتها القديم وبيوت جيرانهم في ذلك الحي المتواضع الذي نشأت وتربت بين أزقته وبساطة سكانه.. أما ضيوف الحفل فستكتفي بأفراد الأسرتين المقربتين جداً، وأطفال الحي الصغار المتواجدين بالضرورة للهو واللعب في المتنزه يوم الأحد، مع أمهاتهم بملابسهم البسيطة المتسخة من اللعب على الحشيش الرطّب.. ومع أن الزوج المليونير الذي يمتلك أضخم وأشهر دار للأزياء، إلا أنها اختارت فستاناً بسيطاً جداً، بلون زهر الياسمين، تحلي شعرها وردة بيضاء صغيرة تزيد لونه الداكن بريقاً، وتظهر طبيعته المنسدل على كتفيها بخيلاء.. والأهم اختارت سيارة والدتها الحمراء القديمة جداً، لتزف بها.
أما الزوج/ العريس، بداية كان قد عرض عليها أن تختار مكاناً مميزاً لإقامة حفل زواجهما الذي سيحضره طبعاً علية القوم، وطلب منها إقامة الحفل في يخته الفاره الفريد من نوعه مع ضيوف النخبة.. أو أن تختار بين أضخم فنادق باريس وأجملها.. أو إحدى ساحات روما العريقة، أو أشهر فنادق لندن، أو أرقى وأضخم وأكبر فنادق العالم في لاس فيجاس، أو في بفرلي هيلز أو هوليوود.. كل هذه الخيارات الخيالية الثرية لم تفتح شهية حرمانها الطفولي، وآثرت طلبها إقامة ذلك الحفل البسيط بكل مقاييسه في متنزه الحي المتواضع وذلك عن قناعة ورغبة صادقة، اعترافاً بجميل ذلك المكان الذي كان لها ملاذاً آمناً في طفولتها الفقيرة، تلعب و تمرح فوق عشبه الطري، وتتسلق بعض أشجاره القصيرة، وتختبئ خلف شجيراته المنتفخة، مع إخوتها وأقرانهم من أبناء الجيران.
* * *
حين تحدث والدها في الحفل وذكر بكل فخر واعتزاز دميتها العتيقة البسيطة، التي كانت تسعدها وتؤنس طفولتها، لم تتحرج، بل أشرق وجهها بابتسامة رائقة، أما نظراتها فقد تعلقت بنافذة غرفتها الصغيرة المطلة على المتنزه، مع دمعة بللت خديها الورديين.
ظلّ الزوج/ العريس المليونير، مبهوراً مأخوذاً بما يحدث، لم يكن يعتقد أو يتصور، أن حفلاً بسيطاً في ذلك المتنزه الصغير في حي متواضع، له كل هذا السحر، وذاك التألق الذي سكنه.. ولكن يبدو أن السحر كان نابعاً من الروح الجميلة العذبة التي كانت تتحلى بها العروس، الشابة كايتي، التي جعلت جميع الحضور يتسامون بروحانية ابتعدت عن الغلو في الماديات، والتباهي بالثروات، والتفاخر بمظاهر الغنى.
* * *
بعد انتهاء مراسيم الزواج، وبعد تلقي العروسان التهنئة من الحضور، تقدمت كايتي جلست خلف مقود سيارة والدتها القديمة، التي تحكي أيضاً جزءاً من طفولتها، ليقفز الزوج فرحاً، مبتسماً محتلاً المقعد الأمامي قرب زوجته الرائعة.. أدارت كايتي المقود بيد، ولوحت بالشكر والامتنان للحي وأهله وناسها باليد الأخرى.
* * *
أعتقد أن حفل الزفاف كان رائعاً، عاطفياً أكثر منه محملاً بالمظاهر الآنية التي تضيع من الذاكرة بعد فترة أما الأحاسيس والمشاعر هي التي ستبقى ولن تغادر الذاكرة.
كما أعتقد أن كايتي شابة من نوع آخر.. أنموذجاً ملائكياً، قلَّ ما تجد له مثيلاً في هذا الزمن الذي تحكمه الماديات، وتلتصق به المظاهر والبهرجة بأنواعها وأشكالها وألوانها.. ولكن يبدو أن هناك مَنْ لا يزال يحمل إحساساً رقيقاً عذباً صادقاً للطفولة التي تسكنه!.
منذ سنوات طويلة وأنا أتابع بشغف أحد المسلسلات الأمريكية الذي تعلقت بأحداثه اليومية المتنوعة والمثيرة أحياناً.
لقد أعجبتني وشدتني إحدى حلقاته التي شاهدتها مؤخراً، تركز على فصل جديد من حياة ابنة عائلة لوغن صغرى البنات والأولاد، واحتفالية زفافها.
تربت "كايتي" مع إخوتها في أسرة متوسطة الحال، بين أم كادحة تعمل بتجهيز الطعام للحفلات والأفراح، وأب غائب عن البيت يطارد رزقه في أكثر من مكان. أما كايتي فحتى الدمية البسيطة كانت تتلقفها يداها الصغيرتان بعد أن تكون قد مرت تلك الدمية على الأخت الكبرى أولاً ثم الأصغر إلى أن تصل إليها بالنهاية نصف ممزقة.. ومع هذا كانت ترسم فرحة كبيرة على وجهها الطري حين تُقبّل تلك الدمية الممزقة الثياب والمخلوعة الكتف، بشغف وامتنان.
* * *
كبرت كايتي، تنقلت بين المراحل التعليمية، تفوقت، حصلت على الشهادات التي تؤهلها للعمل المحترم، اجتهدت كثيراً حتى ترقت إلى مديرة علاقات عامة في إحدى دور الأزياء الشهيرة في مدينتها لوس انجلوس.
تشاء الصدف الجميلة أن يُعجب بها شكلاً وخلقاً وروحاً، المالك الجديد لهذه الدار، والذي يمتلك الكثير من المؤسسات الأخرى المرتبطة بعالم الموضة والأزياء.. و الأجمل لم تمضِ أشهر قليلة حتى عرض عليها ذلك المليونير العازب رغبته بالزواج منها.. لكنها حين وافقت اشترطت عليه أن يقام حفل ومراسيم الزواج في المتنزه الصغير البسيط الذي يطل عليه بيت أسرتها القديم وبيوت جيرانهم في ذلك الحي المتواضع الذي نشأت وتربت بين أزقته وبساطة سكانه.. أما ضيوف الحفل فستكتفي بأفراد الأسرتين المقربتين جداً، وأطفال الحي الصغار المتواجدين بالضرورة للهو واللعب في المتنزه يوم الأحد، مع أمهاتهم بملابسهم البسيطة المتسخة من اللعب على الحشيش الرطّب.. ومع أن الزوج المليونير الذي يمتلك أضخم وأشهر دار للأزياء، إلا أنها اختارت فستاناً بسيطاً جداً، بلون زهر الياسمين، تحلي شعرها وردة بيضاء صغيرة تزيد لونه الداكن بريقاً، وتظهر طبيعته المنسدل على كتفيها بخيلاء.. والأهم اختارت سيارة والدتها الحمراء القديمة جداً، لتزف بها.
أما الزوج/ العريس، بداية كان قد عرض عليها أن تختار مكاناً مميزاً لإقامة حفل زواجهما الذي سيحضره طبعاً علية القوم، وطلب منها إقامة الحفل في يخته الفاره الفريد من نوعه مع ضيوف النخبة.. أو أن تختار بين أضخم فنادق باريس وأجملها.. أو إحدى ساحات روما العريقة، أو أشهر فنادق لندن، أو أرقى وأضخم وأكبر فنادق العالم في لاس فيجاس، أو في بفرلي هيلز أو هوليوود.. كل هذه الخيارات الخيالية الثرية لم تفتح شهية حرمانها الطفولي، وآثرت طلبها إقامة ذلك الحفل البسيط بكل مقاييسه في متنزه الحي المتواضع وذلك عن قناعة ورغبة صادقة، اعترافاً بجميل ذلك المكان الذي كان لها ملاذاً آمناً في طفولتها الفقيرة، تلعب و تمرح فوق عشبه الطري، وتتسلق بعض أشجاره القصيرة، وتختبئ خلف شجيراته المنتفخة، مع إخوتها وأقرانهم من أبناء الجيران.
* * *
حين تحدث والدها في الحفل وذكر بكل فخر واعتزاز دميتها العتيقة البسيطة، التي كانت تسعدها وتؤنس طفولتها، لم تتحرج، بل أشرق وجهها بابتسامة رائقة، أما نظراتها فقد تعلقت بنافذة غرفتها الصغيرة المطلة على المتنزه، مع دمعة بللت خديها الورديين.
ظلّ الزوج/ العريس المليونير، مبهوراً مأخوذاً بما يحدث، لم يكن يعتقد أو يتصور، أن حفلاً بسيطاً في ذلك المتنزه الصغير في حي متواضع، له كل هذا السحر، وذاك التألق الذي سكنه.. ولكن يبدو أن السحر كان نابعاً من الروح الجميلة العذبة التي كانت تتحلى بها العروس، الشابة كايتي، التي جعلت جميع الحضور يتسامون بروحانية ابتعدت عن الغلو في الماديات، والتباهي بالثروات، والتفاخر بمظاهر الغنى.
* * *
بعد انتهاء مراسيم الزواج، وبعد تلقي العروسان التهنئة من الحضور، تقدمت كايتي جلست خلف مقود سيارة والدتها القديمة، التي تحكي أيضاً جزءاً من طفولتها، ليقفز الزوج فرحاً، مبتسماً محتلاً المقعد الأمامي قرب زوجته الرائعة.. أدارت كايتي المقود بيد، ولوحت بالشكر والامتنان للحي وأهله وناسها باليد الأخرى.
* * *
أعتقد أن حفل الزفاف كان رائعاً، عاطفياً أكثر منه محملاً بالمظاهر الآنية التي تضيع من الذاكرة بعد فترة أما الأحاسيس والمشاعر هي التي ستبقى ولن تغادر الذاكرة.
كما أعتقد أن كايتي شابة من نوع آخر.. أنموذجاً ملائكياً، قلَّ ما تجد له مثيلاً في هذا الزمن الذي تحكمه الماديات، وتلتصق به المظاهر والبهرجة بأنواعها وأشكالها وألوانها.. ولكن يبدو أن هناك مَنْ لا يزال يحمل إحساساً رقيقاً عذباً صادقاً للطفولة التي تسكنه!.
كتبت منى الشافعي
*****
يمر يوم الخامس من مارس من كل عام حزيناً دامعاً، فالوجع يسكنني والحزن يلفني يا أبا قتيبة.. فها هي ذكراك الثالثة العطرة تطل علينا، تجبرنا على تقديرها حتى ولو بتلك الكلمات البسيطة.
* * *
هناك قلائل من الناس حين تتعرف عليهم في حياتك لا يمكن ان تنساهم، أو تسلاهم ابداً، وتظلّ ذاكرتك تحمل تفردهم الانساني والفكري والادبي والعلمي والثقافي والحميمي، وانت منهم يا اخي الغالي د. احمد الربعي، فلاتزال تسكن في قلوبنا وتتجذر في وجداننا، فلا يخلو ملتقى حميمي او عام من ذكرك او الاستشهاد بكنوز كتاباتك الثرية المغرقة في المعرفة والثقافة وسحر الادب الذي كنت تعشقه.. فأنت شخصية انسانية متفردة، لك نكهة خاصة لا يمكن ان تتكرر، والاجمل حبك المتميز للكويت، الذي يعرفه كل من زاملك وتابعك، واقترب من فكرك، دائما كنت تردد: «الكويت جميلة» حتى أصبحت هذه المقولة الرائعة ايقونة نرددها جميعا في كل المناسبات، وستظل جميلة كما كنت تحلم بها وتتمناها، بطيبة كل اطيافها وعدّل حكامها وسواعد ابنائها.
لم تبخل بفكرك وعلمك على كل المحيطين بك، فقد كنت حقا مجموعة انسان، بداخلك شيء رائع، وكومة من اسرار الحياة العظيمة، التي يكفيني فخرا انها مستني في مسيرتي الادبية، فكلما اكتب حرفاً أتذكر انك اول من وجهني ووثق بحرفي ودفعني لخوض تجربة الكتابة بكل ثقة وشجاعة، ستظل ذكراك بين صفحات دفاتري العتيقة وساكنة في احباري الملونة تمدني بقوة نحو احلام جديدة، طالما كنت تقول لنا «احلموا وحققوا احلامكم، وكلما تحقق حلم احلموا بغيره».
* * *
نشتاقك يا أبا قتيبة، نشتاق الى «الاربعائيات» تلك الاستراحة الوجدانية التي بقدر ما تلهبنا مشاعر واحاسيس انسانية متنوعة، بقدر ما تمتعنا في آخر الاسبوع، فضلا عن عمودك الثري المغرق بعمق الرؤية والفكر الراقي المؤثر ذي الفلسفة الخاصة «بالمقلوب» الذي يزين جريدة القبس.
نشتاقك يا أخي الغالي، نشتاق الى جلساتك الحميمية، حين كنا نتحلق حولك، نصغي مستمتعين وانت تغرد بقصائد غيرك من الشعراء الذين كنت تعشق ابداعهم، كم نحن بحاجتك يا أبا قتيبة هذه الايام، التي تمر على عالمنا العربي، صعبة، معقدة، ومتأزمة، نحتاج رأيك وفكرك!
نشتاقك يا د. احمد الربعي، نشتاق الى قصائدك الرائعة التي كنت تكتبها من دون ان تنشرها.. تلك احداها:
«عندما تغيبين،
يلف هذا الكون سواد وحزن،
ووحشة!».
صدقت يا أبا قتيبة، فعندما غبت عنا ورحلت باكراً، رأينا الكون ملفوفاً بالحزن متلفعاً بالسواد.. بصراحة، نستشعر فقدك، ولك وحشة احلك من ليالي الهم والوجع.
* * *
عذراً..
عاجزة هي الابجديات التي تعبر بامتياز عن شخص غير عادي مثلك يا ابا قتيبة.. ليرحمك الله ويرحمنا جميعاً.. لك جنات النعيم، ولنا الصبر والسلوان.