المقتطف الثالث
*********
كتبت منى الشافعي
***********
والدي الحنون - يرحمه الله - تسترجعه ذاكرة الطفولة وهو جالس في تلك اللحظة وبين يديه أحد كتبه الأدبية ، التي لا تفارقه أبداً فقد ، كان شغوفاً بقراءة الشعر والأدب ، والقصص التاريخية ، والحكايات العربية القديمة المتنوعة ، مثل عنترة وحمزة البهلوان وألف ليلة وليلة وجحا وغيرها الكثير .
أتذكره جيداً جالساً على كرسي من الخشب يزين ظهره - الكرسي - مربعات متداخلة من خشب البامبو الرقيق ، وقد تآكلت وتقطعت بعض تشكيلاتها المتشابكة لتصبح بلا شكل محدد . أما قوائمه -الكرسي- فيزين إحداها شرخ طويل لف حوله خيط سميك بعناية وقوة .
الحمد لله أن والدي لم يكن يعاني من السمنة وإلاَّ ! أما الوالدة فلم تتشجع يوماً لتجلس على هذا الكرسي خوفاً من .. ؟!
****
أما تلك الطفلة المدللة .
فقد كنت ألهو مع دميتي ، المصنوعة من القماش المحشو بالقطن ، وقد تزينت بفستان جميل حاكته أمي من بقايا الأقمشة ، تزينه بعض الإكسسوارات البراقة - الترتر- المتوفرة آنذاك . كنا نسمي هذا النوع من الدمى "الكردية" .
أقول كنت ألهو بشغف مع دميتي الجميلة ، والقناعة تغلف داخلي ، والفرحة تسكنني ، والمتعة تملأ روحي الصغيرة ، ذلك عندما كانت الحياة بهذه البساطة ، وتلك العفوية المحببة ، والشفافية الرائعة . فكانت قبلة أبي الحنون على خدي ، وعناق أمي المحموم، في تلك اللحظة البلورية الصافية العذبة ، ودخول أخوَايْ الصغيران فجأة من باب البيت ، بصراخهما المعتاد ، وضجيج ألعابهما ، وصوت الباب المزعج ، وهو يُصفق من يد أحدهما بقوة طفولته .
بصراحة .. تلك اللحظة المتداخلة بالحب والحنان والفرح ، المسكونة بالصخب والضجيج واللعب والجد ، كانت عندي قمة السعادة ، التي نتطلع إليها نحن أطفال ذلك الماضي البسيط !
يا لها من متعة نشتاقها ، ونَحِنُّ إلى تفاصيلها وشفافيتها ، دمية ، قبلة ، عناق ، قطة ، بساط أحمر، كرسي تزينه الضمادات ، وصراخ الصغار وصخبهم .
إذن .. ليست المسألة لحظتها ما نملك ، ولكن كيف وكم نستمتع بما نملك ، حتى وإن كان أقل القليل ، هذا الذي يخلق القناعة ، لتظللنا السعادة بأوسع أفيائها .
المقتطف الرابع
*********
مع أن الأزمنة قد تغيرت ، والأمكنة قد تبدلت ، والأشياء تنوعت ، والصور تجددت ، إلا أن طفولتي بدقائق أمورها ، ماتزال تسحبني بقوة لتذكرها .
ها أنا أشم رائحة قالب الكيك - قرص عقيلي- عند عودتي من المدرسة ظهراً في فصل الشتاء البارد - كانت أمي تخبزه على منقل الفحم ( الدّوة) وبقربه ارتاح إبريق (قوري) الشاي ودلة الحليب المعطّر إما بالزعفران أو الهيل أو الزنجبيل .
يا لها من قطعة كيك وكوب الحليب ، الذي أعشقه صافياً يتصاعد البخار منه ، ليرسم تشكيلات غريبة ، تتراقص في فضاء الغرفة الصغيرة .
ويا لها من صرخة حنونة ، من فم الوالدة تنهيني عن أكل تلك القطعة من الكيك ، وشرب كوب الحليب ، قبل تناولي وجبة الغذاء، لأنه حسب توقعات أمي ستسد نفسي عن الوجبة الرئيسية ، بينما توقعاتي ، أن قطعة الكيك هذه ، ألذ وأطيب من "مطبق سمك" أو " مجبوس لحم" أو " مرقة بامية " التي تشتهر أمي بتحضيرها ، أو حتى " دولمة أمي البغدادية " .
لكنني كنت طفلة عنيدة ومتمردة ، ورأسي يابس ، وكأنني الآن بتذكري أشعر بلذة هذه الكيكة ، وأشاهد بوضوح تشكيلات بخار الحليب الساخن ، ولكنني لا أتذكر شيئاً عن وجبة الغداء ، الذي تناولتها من غير نفس .
****
يأتيني الآن صوت - بوطبيلة - في ليالي رمضان الكريم ، ينادي بصوت عالٍ مبحوح ممزوج بشيء من الحنين ( يا نايمين .. السحور) وهو يضرب بقوة على طبلته كي ينبه أهل الفريج لدخول موعد السحور، ساحباً بيده حماره الهزيل المسكين الذي أتعبه طول الليل ، ليتناغم صوت أبو طبيلة مع رنين الجرس المعلّق في رقبة حماره.
****
أتذكر ليالي الشتاء الباردة ، حيث كانت الأمطار تبدأ برذاذ خفيف قبل أن تشتد، وكان منظر الماء بتساقطه الرتيب يجذب الأطفال الصغار للهو واللعب تحت قطراته العذبة . كانت الفرحة ترتسم على تلك الوجوه الصغيرة البريئة فتبدأ الأفواه العطشى بترديد الأهازيج مثل ( طق يا مطر طق.. بيتنا يديد.. مرزامنا حديد). يصاحب هذه الأهازيج الرقص والتقافز إما بالحوش ، أو في الشارع - السكة - حتى تبتل ثيابهم وترتجف أبدانهم ، وتدور رؤوسهم الصغيرة من الدوران حول أنفسهم . وحين يشتد المطر أكثر وأكثر، تخرج الأمهات فجأة ! تبحثنَّ عن الصغار . تختلط الأصوات . كل أم بمناداتها ، من تلوم صغارها ، ومن تصرخ بحنان ، ومن تضرب برفق .
وهكذا تتلون طرق العقاب في البيت ، حيث الإحساس بالدفء والأمان ، والحب والحنان ، مهما كان العقاب شديداً . وغالباً ما يكون لوماً وضرباً خفيفاً ، يُضحك الصغار ولا يبكيهم .
المقتطف الخامس / الأخير
****************
أمام باب المخبز
**********
تأتيني رائحة الخبز الخمير - خبز التنور الدّبل - المزين بحبات السمسم . بعد أن يعدالخباز للخمسة يناولني أقراص الخبز الساخنة . أتحرك عائدة إلى البيت الذي لا يبعد حتى عشر خطوات عن المخبز. أرفع الأقراص بيدي الصغيرتين المطبقتين بقوة على حافة الأقراص . أقربها من أنفي الصغير ، أتلذذ بشم رائحتها الطيبة التي تنفذ إلى معدتي قبل أنفاسي فتحرك شهيتي المفتوحة . يا لها من رائحة تستعبدني ، لأبدأ بالتهام الفقاعات المحمّشة التي تعلو وجه القرص الأول - هذا ما سمحت به المسافة - والتي دائماً تغريني فأقضمها بأسناني بقوة وأتلذذ بأكلها وكأنني ألتهم صحناً من الآيسكريم في وقتنا الحاضر !
ها هي والدتي تنتظرني أمام باب البيت كالعادة تراقب حركاتي. تتناول الخبز من يديَّ الصغيرتين ، وقبلة الشكر تسبقها إلى خدي . تبحث عن القرص الذي نتفت كل فقاعاته اللذيذة ، ثم حشرته بذكاء طفولي بين إخوانه الأربعة ، حتى لا أحد يكتشف فعلتي وبالتالي يعاقبني . ولكن أمي تجد ذلك القرص المندس بين أقرانه . تلتقطه بخفة ، وقبل أن يدخلني الخوف وترتجف أوصالي ، تفاجئني ابتسامتها الحانية ، ثم ضحكتها العالية التي تريحني وتخفف توتري. تتركني وتذهب إلى المطبخ .. أتنفس الصعداء!!
يا لتلك الذكريات الملتهبة بالحنين ،الموسومة بالشوق ، المغلفة باللهفة ، المزدانة بالحب والألفة ، المتدثرة بكل أنواع البساطة والعفوية والشفافية ، وفطرة الماضي.
لنوجه اليوم هذا السؤال إلى أبنائنا - نحن أطفال الخمسينات والستينات -:
- هل لطفولتهم نفس هذا الوهج الوضاء ، وذاك البريق الأخاذ ، وتلك الجاذبية القوية التي تشكل ملامح طفولتنا ؟!